“قانون التجاذب”: نقد روحي وعملي (جزء 1)*

فكرة قانون التجاذب... باختصار

“قانون التجاذب”: نقد روحي وعملي (جزء 1)*

طوني صغبيني

*

التقدم الكبير والمتوازي في علوم الكوانتوم وعلم الوعي الذي أظهر قدرة الذهن والنيّة الداخلية على التأثير على العالم الفيزيائي، يفتح الطريق اليوم لدخول مفاهيم جديدة إلى حياتنا ونظرتنا للأمور. من هذه المفاهيم التي تكتسب شعبية كبيرة مؤخراً على وقع هذا التقدّم هو “قانون التجاذب  (بالإنكليزية: Law of Attraction).

و”قانون التجاذب” بالمختصر هو مقولة ماورائية منبثقة عن تيار “الفكر الجديد”[1]، اكتسبت مؤخراً شعبية عالمية كبيرة مع بروز كتب مثل “السرّ” و”القوّة” وغيرهما. يقوم هذا القانون على فرضيّة أن “كل شيء يجذب إليه ما يشبهه”: التفكير الإيجابي يجذب الأمور الإيجابية إلى حياتنا والتفكير السلبي يجذب الأمور السلبية وهكذا دواليك. ورغم أنه يُعتبر مقولة روحية، إلا أن المقصود منه في معظم الأحيان هو النتائج المادية على الأرض لا النتائج الروحية.

وهذه المقولة هي اليوم إحدى أكثر المقولات شعبية التي تقدّم نفسها على أنها حقيقة روحية وجواب على كل ما يحصل لنا في الحياة؛ الكتب التي تتحدّث عنها مثل كتاب “السرّ” The Secret  لروندا بيرن و”درس في الأعاجيب” A course in miracles لهيلين شوكمان، باعت ملايين النسخ في كافة أنحاء العالم وتمت ترجمتها إلى أكثر من 40 لغة. “قانون التجاذب” هو أيضاً من ركائز روحانية “العصر الجديد“، ويتم من خلاله في معظم الأحيان، تفسير طريقة عمل ممارسات الشفاء بالطاقة الرائجة اليوم مثل الريكي والتيتاهيلينغ وغيرها، كما يتم نسبه عن غير حقّ للمدارس الباطنية القديمة وتقديمه على أنه مبدأ سرّي تناقله الرسل والفلاسفة والمبدعين على مرّ التاريخ.

العديد من الباحثين الروحيين في إيامنا هذه، قد تتقاطع حياتهم عاجلاً ام آجلاً مع كتاب أو معلّم أو مدرسة ما تعدهم بكشف “السرّ” (الإسم الآخر لقانون التجاذب)، وقد يغريهم ذلك على تحويل قانون التجاذب إلى القانون الأعلى الذي يحكم حياتهم ونظرتهم للأمور. لا يوجد أي مشكلة في ذلك، فكل إنسان حرّ بمعتقداته وأفكاره، لكننا نودّ في هذه المقالات القصيرة أن نلفت النظر إلى الجانب الآخر من قانون التجاذب، وهذا الجانب يتمثلّ في أن القانون غير صالح من النواحي العمليّة، الفلسفية والروحية، بل إنه في العديد من الأحيان مدمّر نفسياً وروحياً…

“قانون التجاذب”: الجذور القديمة والنسخة الحديثة

لا بدّ من أن أشير أولاً إلى أنني على الصعيد الشخصي أؤمن بكون قانون التجاذب جزء من الوجود لكن ليس كقانون وحيد يعمل في الكون بالطريقة التي تقدّمها روحانية العصر الجديد، بل كتفرّع بسيط جداً من قانون علمي آخر هو بكل بساطة قانون السبب والنتيجة. لا أعتقد أن النتائج المادّية في الكون تتحقّق دائماً وفقاً لهذا القانون لأنه هنالك عوامل مؤثرة أخرى، وبرأيي المتواضع أن “النيّة” قادرة على تحقيق تغيير داخلي في الإنسان وبالتالي ربّما تحضيره للنتيجة المرجوّة، لكنها غير كافية للتأثير بشكل كبير على الأمور الفيزيائية الأكبر (والتجارب قد أظهرت أننا نحتاج مئات المتطوعين للتأثير على شيء صغير كنبتة أو كوب مياه).

غلاف كتاب "السرّ" الشهير

وبالتالي هذا المقال لا ينتقد هنا قانون التجاذب على المستوى الفيزيائي الموجود في الطبيعة (رغم أنه في الطبيعة الأضداد هي التي تتجاذب لا الأمور المتشابهة)، كما أنه لا ينتقده على المستوى الشخصي المباشر لأنه أمر بديهي: حين تبتسمين كثيراً ستتلقين بسمات أكثر في المقابل، وحين تكون فرحاً ستجذب الناس الأكثر فرحاً إلى حياتك، وحين تركّز على عملك ستقوم به بشكل أفضل ويدرّ عليك مالاً أكثر في المقابل، هذه كلها أمور من بديهيات الحياة. ما ننتقده هو أن النسخة التجارية من قانون التجاذب الموجودة في كتب مثل “السرّ” تتجاوز كل ذلك وتقول للفرد أنه يستطيع جذب الأمراض والحوادث والدمار إلى حياته كما يستطيع الحصول على سيارة جديدة وزوج مثالي بمجرّد التفكير في ذلك في ذهنه، وهذا برأينا المتواضع هو مبالغة.

الأديان الباطنية القديمة كانت تعتبر أن الأفكار\النوايا التي نحملها تؤثر على حياتنا بطريقة مباشرة، إذ أن كل فكرة تحدث تغييراً في الجزء الخفي منا، النفسي والذهني والروحي، كما تؤثر على الأبعاد الطاقوية المرهفة من الوجود عبر حقل النقطة صفر. هذا التغيير سيعود ليؤثر بدوره على المستوى المادي والحياة ككل. كل فكرة أو نيّة نحملها، كل عمل نقوم به وكل كلمة نقولها تنطبع في قلب الكون وتبقى في ذاكرته وتتفاعل في رحم هذا الوجود مع كل شيء آخر، لكن ليس من الضروري أن تعود إلى العالم الفيزيائي عبر نتيجة مؤكّدة، وهنا اختلافنا الأساسي مع قانون التجاذب.

معظم أديان الحكمة مثل البوذية، تعتبر أن الأفكار التي نحملها تحدّد شخصيتنا، وشخصيتنا تحدد بدورها كيفية تعاملنا مع الحياة أو حتى ما يمكن أن تقدمّه لنا الحياة. هنالك حكمة شرقيّة قديمة تقول “انتبه لأفكارك، فهي تتحوّل إلى كلمات، والكلمات تتحوّل إلى أفعال، والأفعال تتحوّل إلى عادات، والعادات تتحوّل إلى طبع، والطبع يحدّد مصيرك”. لكن طروحات “قانون التجاذب” وفقاً لدين “العصر الجديد” تتجاوز بديهية تأثير الأفكار على حياتنا، وتتجاوز فرضية تفوّق العقل على المادة وتقوم على أن النوايا والأفكار التي تجول بخاطر الفرد، لا أفعاله، هي صاحبة التأثير الحاسم على حياته وظروفها وأحداثها.

بالتالي، إذا كان هنالك شخص ما يعتقد بعمق أنه سيجني الكثير من الأموال في المستقبل، فوفقاً لهذه المقولة، سيصبح هذا الشخص بالتأكيد غنياً في المدى المنظور بغض النظر عن أحداث حياته. ووفقاً لنفس المقولة، إذا كان هنالك فرد يعتقد أنه سيظل فقيراً طوال حياته، فذلك سيتحقق أيضاً لأن “قانون التجاذب” يقول أن أفكارنا ونوايانا هي التي تحدد سير الأحداث على أرض الواقع. الوجه الآخر لهذه الفرضية يجعلنا نستنتج أيضاً أن الذي يقع فريسة مرض ما يُعتبر أنه هو من سبّب هذا المرض لنفسه من خلال أفكاره ونواياه. الأمر نفسه ينطبق على من يتعرّض لحوادث مؤسفة حتى ولو كان من قضى في الحادث هم ملايين البشر كما في حالة الكوارث الطبيعية. على متن المقالين التاليين سنعالج هذا الطرح من زاوية نقدية، فهو برأينا يشجّع على تجنّب الحياة بدل التعلّم منها، ينمّي عقدة الذنب، يشجّع على الخمول، ويفسد الروحانية بتحويلها إلى يانصيب جوائز مادّية بحتة.


[1]  تيار فلسفي-روحي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر يقوم على أن النوايا الذهنية مسؤولة عن كل شيء في الحياة، ومنها الصحّة البدنية وحظوظ اكتساب ثروة والزواج والسعادة…ألخ

_____________________________________

* المقال المعنون برمز النجمة – * – هو مقال رأي يعبّر عن رأي مؤلفه ولا يعبّر بالضرورة عن الرأي الرسمي لمدوّنة اسكندرية 415.

_____________________________________

يمكن العودة إلى فهرس العدد الثاني على هذا الرابط: الذهن على المادّة، القدرات الخفيّة للإنسان

*

Posted on جويلية 25, 2011, in مفاهيم, مقالات رأي and tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink. 5 تعليقات.

  1. موضوع شيق خصوصا في ظل تنامي هكذا طروحات
    بانتظار الاجزاء القادمة

  2. ديما وأغنوستيك شكراً
    بتمنى الأجزاء التالية تنال اعجابكم كمان وبانتظار قراءة آرائكم : )

  1. التنبيهات: روحانية من دون خوف: الخطوة الأولى للتصالح مع العالم | نينار

أضف تعليق