نحو فهم أعمق للتأمل: معرفة الذات، اختبار الوجود، وتحقيق التنوّر الروحي

*

طوني صغبيني

*

حين أخبرت عائلتي أنني سأغيب لـ12 يوماً في انعزال تام من دون أي تواصل مع العالم الخارجي في مركز خاص للتأمل، الأرجح أنهم اعتقدوا أنني فقدت صوابي، مجدداً. الحقيقة هي أنني لم أصبح مجنوناً (ليس بعد على الأقل)، لكنني ككلّ باحث روحي في التاريخ، احتاج لهذا النوع من العزلة لأقضيه في تأمل الوجود وفي اختبار تجارب معيّنة من التجلّي الروحي التي لا يمكن أن نعيشها بسهولة في حياتنا اليومية المزدحمة.

طبعاً كنت ولا أزال أمرّ حالياً بفترة مفصلية في حياتي، وفيما تخبرنا الثقافة السائدة أن ما يجب فعله في هذه الحالة هو دفن الذات في التذمّر المستمرّ والإلهاءات والتفكير المنهك، كنت أعلم أن أفضل طريقة للحصول على الوضوح هي أن أكون مع نفسي أحادث قلب هذا الوجود.

حياتنا العصرية تتسم بالتوتّر والاستعجال والتعب من الصباح حتى المساء ورغم ذلك، نعتبر أن العزلة والتأمل أفكاراً غريبة لدرجة أننا نشكّ بالسلامة العقلية والنفسية لمن يقوم بهما. الجنون برأيي هو الاستمرار بهذا الأسلوب القاتل في العيش من دون أخذ استراحات حقيقية لاستعادة الطاقة للروح ولإعادة التوازن للذهن والراحة للجسد. هكذا وجدت نفسي أدخل في عزلة جزئية في 20 دسمبر الماضي، ثم عزلة تامة عن العالم بين 1 و12 يناير، فما الذي تعلّمته منها؟

*

الراهب عند ضفاف البحيرة

لا كلام مع أحد، لا حاسوب أو هاتف أو انترنت أو تلفاز، لا دفتر أو قلم لتسجيل الملاحظات أو موسيقى أو كتاب لتمضية الوقت، لا يمكن ممارسة الرياضة، لا يمكن الخروج من المركز لأي سبب، لا طعام بعد الساعة الحادية عشر ظهراً، وعليك أن تجلس للتأمل لـ12 ساعة في اليوم.

هذه هي قواعد دورة تأمل الفيباسانا التي شاركت بها في مركز خاص على ضفاف بحيرة بيغناس في مرتفعات النيبال. لشهر تقريباً، عشت حياة راهب عند ضفاف تلك البحيرة. كنت افتح عيناي كل يوم على هذا المنظر:

*

بدأت بممارسة التأمل بشكل جدّي منذ العام 2008 تقريباً وفقاً لتقنيات مدرسة الفاجرايانا (البوذية التيبيتية تحديداً)، ثم تعلّمت تقنية الفيباسانا في العام 2011، ورغم ممارستي للتأمل لساعات لبضعة أيام متواصلة خلال السنوات التي مرّت، إلا أن هذه المرّة كانت المرة الأولى التي انعزل فيها تماماً لهذه الفترة الطويلة. (يمكن قراءة مقدّمة معمّقة عن طبيعة التأمل واليقظة الذهنية على مدوّنة اسكندرية-415 التي خصّصنا فيها عدداً كاملاً لهذا الأمر: من النوم إلى اليقظة: الاستيقاظ الذهني والروحي)

كنت بدأت عزلتي الجزئية قبل بدء الدورة بإثنا عشر يوم حيث بقيت بمفردي تماماً في مكان منعزل قرب البحيرة، أمارس التأمل لنحو ساعة يومياً ثم أزور المعبد البوذي القريب للمزيد من التأمل ولقضاء الوقت مع الرهبان هناك. العزلة الكاملة في مركز الفيباسانا بدأت في 1 يناير وانتهت في 12 من الشهر نفسه، ما يعني أنني قضيت نحو 24 يوماً بمفردي في العزلة والتأمل، منها 12 يوم في عزلة تامة عن العالم الخارجي.

قواعد المشاركة في الدورة قد تبدو قاسية للبعض لكنها تهدف لقطع أي إلهاء من العالم الخارجي بشكل تام. لم يكن بوسعنا حتى جلب دفتر ملاحظات لأن تسجيل ملاحظات يعني إعادة انخراط الذهن المفكّر بالعمليّة وتدخّله مع ما يجب أن يكون أبعد وأعمق بكثير من التفكير العادي.

عدم وجود أي الكترونيات أو جرائد أو أي شيء من العالم الخارجي يعني إفراغ الذهن من أي تأثيرات خارجية. في الليلة الأولى من الدورة، تم إعلامنا ببدء ما يسمّى بـ”الصمت النبيل”، أي أنه لا يمكن للمشاركين في الدورة التحدّث مع بعضهم بعضاً بأي كلمة، حتى بالإشارات والعيون، وهكذا كان علينا قضاء طوال هذه الفترة من دون أي كلمة أو أي تواصل بشري من أي نوع مع أي شخص. هذه القاعدة تهدف أيضاً لإبعاد أي تأثيرات من الآخرين على عمليّة التأمل الخاصة بنا.

 انعزال تام، بكل معنى الكلمة.

كان لديّ سريري المتواضع وحقيبة ملابسي في غرفة اتشاركها مع ثلاثة آخرين. أصحو كلّ يوم عند الساعة الرابعة صباحاً عند قرع الجرس الأوّل لأتوجّه إلى قاعة التأمل. أجلس مغمض العنيان ومتأملاً بصمت على الأريكة الصغيرة حتى الساعة التاسعة ليلاً، يتخللها ثلاث استراحات قصيرة لتناول الطعام والشاي.

الطعام كان خضرياً حصراً (vegan)، وكنا نصوم لـ18 ساعة في اليوم لأن الوجبة الأخيرة هي عند الساعة الحادية عشر قبل الظهر (يوجد شاي فقط وتفاحة عند الساعة الخامسة والنصف). هنالك أسباب وجيهة لهذه الحمية الغذائية أيضاً: التأمل الروحي يضطرب ويزداد صعوبة عند اتباع حمية طعام غير نباتية أو حين يكون الشخص متخماً.

إلى ذلك، هنالك خمس تعهدات روحية-أخلاقية يقوم بها التلميذ قبل بدء الدورة وهي الامتناع عن الكذب، السرقة، الجنس، المخدرات والمشروب، والقتل. التعهد الأخير يشمل قتل أي مخلوق للطعام ويشمل حتى الامتناع عن قتل الحشرات. هكذا وجدت نفسي أطرد العناكب ويسروع واحد كانوا يتسكّعون على سريري لعدّة أيام، بدل قتلهم. خرق إحدى هذه التعهّدات يؤثّر على نقاوة عملية التأمل وفقاً لهذه المدرسة.

خلال الدقائق العشر الأولى في الدورة، بدأت أشعر بالألم في ساقيّ لأنني غير معتاد على الجلوس متربعاً على الأرض، فكّرت في ذهني بأنه لا يزال هنالك أكثر من 120 ساعة من هذا الأمر، وقلت لنفسي “تباً!”. صارعني ذهني الذي كان يريد منّي الوقوف وطلب المغادرة، لكنني عاندت نفسي للبقاء رغم الألم، لأنني كنت أعلم أنه هنالك شيء ما ينتظرني لكنني لم أعلم ما هو تحديداً.

*

الصمت الذي يخرق جدار الواقع

قبل بضعة أسابيع في النيبال كنت في إحدى المعابد البوذية في مخيم اللاجئين التيبيتيين في منطقة بوكارا النيبالية، وحين كنت أسأل عن الاتجاهات، كان معظم الرهبان يحدّقون بي بصمت من دون أن يجيبوا. انتبهت فيما بعد أن معظم الرهبان في المكان قد أقسموا “تعهّد الصمت” الذي يشكّل جزءاً من التقاليد الرهبانية في البوذية، والتعهّد هذا يأخذوه لسنوات أحياناً وبعضهم يتعهّد بالصمت مدى الحياة. الفكرة خارقة للغاية بالنسبة لنا في الحياة العادية وغير منطقيّة، لكن خلال عزلة التأمل هذه اختبرت قوّة هذا الصمت بنفسي.

أوّل ما لاحظته في أوّل أيام العزلة هو أن اعتمادي على الهاتف هو أكبر بكثير مما كنت أتوقّع. كنت أؤمن ولا أزال بأن الهاتف الذكي هو لعنة وكنت اعتقد سابقاً أنني استخدمه باعتدال إذ أنني مثلاً لا أفتح الهاتف خلال الوقت الذي أقضيه مع الأصدقاء، ولا أردّ على الاتصالات أو الرسائل حين أعمل وأكتب وبالكاد أقوم بتحديث حساباتي الشخصية على المواقع الاجتماعية، ولا أجلب هاتفي معي إلى النادي الرياضي…الخ (وهذه الأمور سبّبت لي مشاكل كبيرة مع الأصدقاء والأحباء والعائلة لأن الناس تتوقعك أن تردّ على الرسائل فوراً هذه الأيام).

ما لاحظته هو أنني كنت أمدّ يدي لجيبي عدّة مرات في اليوم في حركة لاإرادية. بما أنّ هاتفي ليس معي الآن ولا يمكن الوصول إليه، بدأت ألاحظ الفراغ الذي تركه خلفه. في إحدى المرّات رأيت أحدهم يضيف الكركم على الشاي وأردت أن أعرف السبب – فهل هناك فوائد لذلك مثلاً؟، لكن لا يمكنني التحدّث معه وهكذا وجدت نفسي أقوم بالحركة اللاإرادية نفسها، أي أمدّ يدي على جيبي بحثاً عن الهاتف لكي أبحث عن السؤال في غوغل. في بعض الأحيان وجدت نفسي اتساءل عن الرسائل التي تلقيتها في هذا الوقت على الهاتف وكنت أفكّر أنه بالتأكيد هنالك شخص ما غاضب منّي لأنني لم أشاهد الرسالة لأكثر من عشرة أيام.

في كلّ الأحوال، أصبح غياب الهاتف أمراً طبيعياً بعد اليوم الثالث، بل يمكنني أن أقول أن تحرير انتباهي من الهاتف كان له تأثير ملحوظ جداً. كميّة التشتّت الذهني التي تسبّبها هواتفنا لا نكتشفها إلا حين نعيش من دونها لعدّة أيام. المشكلة هنا هي أنني أعلم بالتأكيد أن الغالبية الساحقة من الناس لن تستطيع العيش من دون هاتفها لـ12 يوم، فهي لا تستطيع العيش من دون جرعتها اليومية من الأخبار واللايكات والرسائل والترفيه الآني. الفكرة بحد ذاتها ستمنعها من حضور دورة كهذه تحت شتّى الأعذار.

الهاتف كان أمراً بسيطاً مقارنة بالصمت الشامل وبفكرة عدم التواصل إطلاقاً مع الآخرين قربي. في العديد من الأحيان كنت أريد نقاش شيء ما أو التعليق على أمر قبل أن اتذكّر التزامي بالصمت النبيل. أدركت شيئاً عميقاً للغاية فيما يتعلّق بالكلام: اللغة قوية جداً – لها قدرة كبيرة على التأثير على تجربتنا وذهننا ورغم ذلك، معظم ما نتفوّه به من كلام هو هراء.

خلال الصمت، لاحظت أن الذهن يحبّ التعليق على كلّ شيء والتحدّث بأي شيء لكن معظم تعليقاته لا قيمة لها غير تعبئة الوقت وإشباع الرغبة الإنسانية بالتواصل. لاحظت أن الامتناع عن التعبير عن هذه التعليقات الذهنية بالصوت والكلام لم يغيّر شيئاً من التجربة بالنسبة لي أو للآخرين، فهي لم يضف شيئاً لأحد ولم ينقص شيئاً عن أحد. هنالك كمية هائلة من الكلام في يومياتنا الذي هو مجرّد ثرثرة، ولا نكتشف ذلك إلا حين نصمت ونلاحظ كمية الثرثرة التي تريد الخروج منّا، ونلاحظ من بعدها أن وجودها من عدمه كان سيّان بالنسبة لنا وللآخرين.

على الجهة الأخرى من ذلك، نكتشف في الوقت نفسه أن الكلمات لها تأثير بالغ فينا وبالآخرين. الكلمات حين تخرج تحاول أن ترسم حدوداً للتجربة، تحاول أن تشكّل الواقع بناء على التصوّرات الذهنية والنفسيّة المتواجدة لدينا وترتبط بشكل عميق جداً برغباتنا ومخاوفنا الدفينة. هذه الرغبات المعبّر عنها بالكلام قد تجد صدىً لدى الآخرين وتحرّكهم للتفكير بشيء ما أو للقيام بأمر محدّد.

على سبيل المثال، في المرّة الوحيدة التي تحدّث بها أحدهم خلال الدورة، أخبر صديقه أنه يعيش تجربة روحيّة هائلة وصف أحاسيسها له. بعد عدّة أيام نرى أن الصديق الذي لم يعش تلك التجربة الروحية يمرّ بإحباط عميق – كلام صديقه رسم له حدود تجربته وجعله يحدّد منها هدفاً له، ما أثّر على تجربته بالكامل وشوّه جزء كبير منها. تلك الكلمات جعلته يقضي وقته وجهده يطارد الوصف المحكي لتجربة شخص آخر من دون أن يدري، مع العلم أن هذا الوصف قد يكون مبالغاً به أو غير حقيقي حتى. قد يخرج هذا الشخص من دورة التأمل معتقداً أنه فشل، وقد تطبع هذه التجربة حياته الروحية والذهنية لفترة طويلة: لهذه الدرجة يمكن للكلمات يمكن أن تؤثر على حياة الآخرين.

الصمت علّمني درساً أكبر من ذلك أيضاً: الصمت المطوّل يهذّب الكلام الذي يأتي إلى ذهننا حيث بما أننا لا نحاول التأثير على الآخرين، تضمر من تعابيرنا بعض الإضافات والتشوّهات التي نادراً ما نلاحظها في حديثنا. نلاحظ أننا ربما نمتلك بعض العادات اللاإرادية في الكلام مثل المبالغة في الوصف أو الكلام القاسي أو المعسول (الذي في غير مكانه) أو أننا كلّما تحدّثنا نحاول إخفاء المشاعر أو التحدّث بغير ما نشعر به حقاً.

سنلاحظ أننا كنّا نمتلك عمليّة إخراج معيّنة للكلام حين نتحدّث مع الآخرين – وهذا الإخراج له أهداف مختلفة كأن نحاول إبهارهم أو الحصول على تقديرهم أو أحياناً قهرهم وإشعارهم بأنهم أقل منّا. عند الصمت، المسافة بين ما نشعر به حقاً وبين ما نقوله تصبح أقصر، ونتخلّص من زوائد الإخراج المسرحي التي يحفل بها مجتمعنا والتي اكتسبناها على مدى سنوات من التراكم.

الصمت وضع بُعد جديد للعلاقة مع الآخرين بالنسبة لي حيث شعرت بأن الكلام لم يكن ضروريا، فأنا أعرف هؤلاء الناس، بل أعرفهم بشكل حميم أيضاً، من تعابير وجههم ولغة جسدهم. مع الوقت بت أعرفهم من الطاقة التي يبثّونها حين يمشون وحين ينظرون إلى العالم، حيث أنه حين تسقط الأقنعة التي يساعدنا الكلام على ارتدائها وعلى إقناع الآخرين بها، يصبح كلّ شعور داخلي  واضحاً وضوح الشمس خارجياً وبات بالإمكان يمكن معرفة ما إذا كان الشخص متألماً أو سعيداً أم متحمساً أم محبطاً. بات بالإمكان رؤية الآخرين كما هم حقاً.

في نهاية الأيام العشرة التي قضيناها، بتت أشعر بصلة عميقة مع هؤلاء الغرباء. شعرت أنني أعرفهم منذ زمن طويل، أعرف شخصياتهم ومشاعرهم وأفكارهم. بالفعل حين انتهت الدورة وأصبح بامكاننا التحدّث مع بعضنا البعض، كان هذا الشعور مشتركاً بين الجميع: في ظلّ الصمت، كانت الروح تشعّ من الآخرين، كان يمكنك رؤية حقيقتهم من دون التفوّه بأي كلمة. الصمت سمح لنا بخرق جدار الواقع ورؤية الحقيقة القابعة خلفه.

*

إحدى المعابد الصغيرة التي كنت أزورها في ضواحي كاتماندو.

*

هذا الذهن المتوتّر كالقرد

كل من يتعلّم التأمل يبدأ من نفس التقنية: ركّز على تنفّسك ولا شيء سوى التنّفس.

كل من حاول القيام بذلك سيكتشف سريعاً أن هذه المهمة البسيطة هي في الواقع شاقة جداً: ذهننا يريد القيام بكلّ شيء، بأيّ شيء، باستثناء التركيز على التنفّس.

ذهننا سيقاومنا: سيخبرنا أنه علينا النهوض وأن ما نقوم به عبثي. إن استمرّينا بالجلوس سيذهب إلى التفكير بالأشياء التي حدثت بالبارحة ثم سيفكّر بما نريد أن نقوم به غداً، وهكذا سينتقل من فكرة إلى أخرى ومن الماضي إلى المستقبل ومن اللطف إلى القسوة باستمرار مثل قرد يتعلّق بغصن بعد آخر، من دون أن يقوم بالمهمة البسيطة التي نريد منه أن يقوم بها والتي تتمثّل بالتركيز على التنفّس حصراً.

حين نجلس للتأمل للمرة الأولى سنكتشف أن ذهننا لا يستطيع التركيز حتى لبضعة ثوانٍ قبل أن يلتقط فكرة ما ويبدأ بالجري ورائها بين فكرة وأخرى. الأمر مذهل حين نختبره للمرة الأولى لأنه يعني أمران:

  • ذهننا له إرادته المستقلّة عنّا ولا يصغي لنا، نقول له أننا نريد التركيز على تنفّسنا لكنه لا يزال يفكّر بالستاتوس التالي الذي يريد نشره على فايسبوك.
  • ذهننا ينتقل من فكرة إلى أخرى ومن الماضي إلى المستقبل ومن الواقع إلى المتخيّل من دون منهجيّة أو خطة أو هدف. هو يقفز باستمرار بين الأشياء بشكل عشوائي ومنهك. أحياناً يعود إلى نفس الفكرة عشرات المرّة، مثل شيء قاله أحدهم لنا منذ شهر وأزعجنا، رغم أن علك نفس الفكرة لا ينفعنا بشيء على الإطلاق.

*

إدراك طبيعة الذهن هذه هو الخطوة الأولى لفتح الباب نحو حقائق أكبر عن الذات. الخلاصة الأولى من هذا الأمر هي أن تركيزنا الذهني – كما الغالبية الساحقة من الناس – هو في الحضيض لدرجة أننا لا نستطيع حتى التركيز لبضعة ثوانٍ على تنفّسنا.

هنالك الكثير من أدبيات التنمية الذاتية التي تتحدّث عن تنمية الذات من دون أن تتحدّث عن التقنية الأساسية لتمرين الذهن، وهي التأمل. لذلك نرى أشخاص يقضون معظم حياتهم يحاولون تنمية ذاتهم ويفشلون في ذلك لأنهم أهملوا تمرين ذهنهم ذاته، وهم كمن يريد أن يحصل على جسد رياضي من دون أن يمارس الرياضة. التركيز هو المرحلة الأولى في كلّ عملية تأمل وهو تمرين ضروري وأساسي إن كنا نريد ذهناً يقظاً وحاداً.

من المهم أن ننتبه هنا إلى أن التركيز على التنفّس من دون قول شيء بصمت ومن دون التحديق بشمعة ومن دون تخيّل شيء، هو التمرين الأهم للتركيز، لأن التنفس هو أمر طبيعي جداً وموجود طوال الوقت ولا يوفّر أي قيمة فكرية لذهننا أو أي مادة للترفيه (كما عندما نتخيّل شيئاً ما أو نردّد جمل محدّدة)، وبالتالي هو أصعب تمرين للتركيز يمكن أن نقوم به وأكثره إفادة.

الخطوة التالية بعد ذلك هي إدراك أننا لسنا عقلنا وأفكارنا. عقلنا القرد يعمل باستمرار وبعشوائية تامة. في الأيام العادية يأخذنا ويعيدنا أينما يشاء وكما يحلو له، يضعنا في الظلمة ثم يعيدنا إلى الحماسة والنور بحسب بعشوائيته المعتادة، من دون تدخّلنا أو حتى معرفتنا بهذه العملية. عادة نعتقد أننا نحن من نقوم بذلك لكن خلال التأمل نكتشف أن الذهن له إرادته ونمطه الخاص المنفصل إلى حدّ كبير عنّا نحن.

أهم ما يجب أن نفعله في عمليّة التأمل هو تحقيق انفكاك الذات عن الذهن: الذهن غير ثابت وعشوائي ويجبر الذات على عيش يومياتها تحت رحمته طوال الوقت. يقفز الذهن إلى فكرة تعيسة، فتعيش الذات بالتعاسة، يقفز الذهن إلى فكرة سعيدة، فتعيش الذات بالسعادة، وهكذا يظلّ الوعي اليومي عبداً لتقلّبات الذهن.

ماذا نعني بتعبير الانفكاك بين الذات والذهن؟ نعني إدراك الطريقة التي يعمل بها الذهن: إنه قطار دائم من الأفكار العشوائية التي تتحرّك باتجاهات مختلفة من دون تدخّلنا بشكل إرادي وواعٍ بها. هذا لا يعني أنه ذهن “سيء” أو ما شابه، بالعكس تماماً، هذه وظيفته، أن يفكّر وأن يخطّط وأن يهضم الأحداث الماضية وأن يتخيّل واقعاً مختلفاً. لا يجب أن نقع في فخّ اعتقاد أن ذهننا “فاسد”.

العديد من ممارسي التأمل يعتقدون أنهم يستطيعون تغيير عادة الذهن هذه ويدخلون في صراع مرير وغير مجدي مع ذهنهم. بدلاً من محاولة “ترويض الذهن”، ما يجب القيام به هو فقط فكّ الارتباط بين حالتنا الذهنية والنفسية وبين قطار الأفكار الذي لا يتوقّف.

لا يمكننا إيقاف القطار لكن يمكننا أن نفهم أنه ليس نحن وأننا مجرّد راكب على متنه، وأن هذا القطار هو نتيجة عمل عضو بيولوجي في الجسم وأننا لا يجب أن نعيش تحت رحمته طوال الوقت. كيف نقوم بذلك عملياً؟

حين ندرك أن كل فكرة في الذهن هي مجرّد أمر عابر وأنها مجرّد فكرة، نبدأ بتمرين أنفسنا على عدم التفاعل مع هذه الفكرة وعلى انتظار مرورها بسلام. هكذا مع الوقت نكتسب القدرة على خلق مسافة معيّنة بيننا وبين قطار الأفكار هذا ونتوقّف عن العيش عليه وتحت رحمته. علينا بعبارة أخرى أن نترجّل من القطار ونراقبه من بعيد. هذا لا يعني أن ذهننا سيتوقّف عن التفكير، بل أننا فقط سنتوقّف عن التفاعل مع كلّ فكرة وكل هراء يخطر على باله.

الإدراك المتسامي لا يتوقّف هنا، إيقاف التماهي مع ذهننا identification هو الخطوة الأولى لكشف الأنماط الخفية التي تحرّكنا كأشخاص.

*

SAMSUNG CAMERA PICTURES

الأنماط الخفية التي تحكمنا

خلال عملية التأمل، وتحديداً في تقنية الفيباسانا، هنالك تركيز كبير على تأمل الأحاسيس المختلفة في الجسد. هذه الأحاسيس تأتي من مكان، كل احساس في الجسد هو ردّة فعل على شيء في العالم الخارجي أو ردّة فعل على شيء في عالمنا الداخلي (أي يحدث في ذهننا أو وعينا).

 مع الوقت ومع تعمّق ممارستنا للتأمل يمكننا تأمل أحاسيس بالغة الرقة على جسدنا في أماكن لم نكن نعرف أننا يمكننا أن نشعر فيها بشيء. هذا الأمر بدوره يسمح لنا بملاحظة الروابط بين الأفكار التي تأتي إلى رأسنا وبين الأحاسيس التي نشعر بها على جسدنا.

في العديد من الأحيان سنكتشف أنه هنالك ظروف خارجية معيّنة (مثل رائحة الطبخ مثلاً) أو أفكار داخلية معيّنة تسبّب لنا أحاسيس محدّدة جداً، حيث يمكننا أن نشعر باحساس ارتفاع الحرارة والاحتراق على مسام بشرتنا مثلاً ثم نلاحظ أن هذا الاحساس يأتي من شعور معيّن بالقلق أو الغضب.

إدراك هذا الرابط بين الأحاسيس الجسدية والأفكار العشوائية التي تصل إلى ذهننا سيتوسّع مع الوقت ليشمل الكثير من الأحاسيس والأفكار اليومية التي نشعر بها وسنكتشف أنه هنالك بعض الأفكار والأحاسيس التي تتكرّر لدينا وتهيمن على جزء كبير منّا. الأهم من ذلك أننا في لحظة معيّنة سندرك الحقيقة التالية: هذه الأفكار والأحاسيس المهيمنة تجعلنا نقوم بسلوكيات محدّدة، فعلاً وقولاً وقراراً في الحياة، وسنبدأ باكتشاف أنماط عميقة جداً عن حياتنا. قد يحبطنا هذا الاكتشاف في الفترة الأولى لأننا سننتبه إلى أن العديد من سلوكياتنا في الحياة هو ردّة فعل على أحاسيس وأفكار لا نعلم أحياناً مصدرها، وتحوّلت مع الوقت إلى نمط من التفكير أو السلوك يحكمنا من دون أن ندري.

الجسد والذهن يعملان بطريقة بسيطة: هنالك تجربة مزعجة تحصل لنا، تطلق أحاسيس مزعجة في الجسد، وبالتالي يعمل الذهن على اتخاذ الأفعال التي يمكن أن تنهي هذا الشعور. وهكذا حين تتكرّر هذه التجربة يقوم الذهن بنفس العملية ويتخذ نفس النوع من الأفعال، بغض النظر عن السياق والخلفيات. الأمر نفسه يحصل عند التعرّض لتجارب لطيفة حيث سيعمل الذهن على إطالة الفترة أو تكرار التجربة كلّ مرّة، بغض النظر عن السياق والخلفيات.

الأمر يبدو بسيطاً في الشرح لكنه يصبح معقداً في الحياة اليومية.

على سبيل المثال، نحن بعلاقة عاطفية جميلة ونحب الشخص الآخر، لكن خلال التأمل قد نكتشف أننا حين نفكّر بها هنالك أحاسيس مزعجة على جسدنا تشبه شعور القلق أو الغضب، وهذه الأحاسيس قد تكون نابعة من علاقة سابقة طبعت تجربتنا مع العلاقات العاطفية. بما أن الجسد والذهن الذي يشعر بهذه الأحاسيس لا يتعاطى بالسياقات والخلفيات ويتعاطى فقط مع الأحاسيس الخام، سيحاول ضمنياً إنهاء هذا الإحساس المزعج، وهكذا سينتقل الشخص إلى تخريب علاقته العاطفية من دون أن يدري لكي ينهي هذا الإحساس المزعج. خلال التأمل، حين يأتي هذا النمط من ظلمة اللاوعي إلى نور الوعي، سيبدأ بالتفكك لأنه سينتقل من ردّة فعل لا ندري بها على إحساس خام إلى عمليّة فعل يمكننا التعاطي معه بوعي وإرادة.

العلاقات العاطفية هي ربّما المثال الأكثر وضوحاً للأنماط الخفية التي تحكمنا لأنها أقوى الأنماط التي نكرّرها (ولهذا السبب نختار دائماً النوعية نفسها من الأشخاص حتى ولو كنا نعلم ذهنياً أن هؤلاء الأشخاص غير مناسبين لنا لأننا نريد تكرار نفس الأحاسيس في لاوعينا)، لكن نفس الأنماط التي تتراكم لسنوات تحت طبقة الوعي تحكم بقيّة حياتنا وتهيمن على علاقاتنا وقراراتنا بأكملها.

الأنماط اللاوعية لتصرفاتنا تكتسب قوّتها من أنها تحرّكنا من دون أن ندري، ولذلك ليس لإرادتنا قوّة عليها لأنها تجهل وجودها وتجهل الطريقة التي تعمل بها، لكن حين نجلبها من اللاوعي ونضعها تحت مجهر وعينا تبدأ بالتفكك. إن كنّا نمارس الانفكاك عن الذهن بشكل صحيح، أي نعوّد أنفسنا من خلال التأمل على اتخاذ مسافة معيّنة من الأفكار العشوائية والأحاسيس التي تصل إلى ذهننا وجسدنا، ستبدأ هذه الأنماط بفقدان سطوتها على أحاسيسنا وسنبدأ بالتحرّر منها. بعض المعلّمين يصفون هذا الأمر بـ”عمليّة جراحية عميقة في الذهن والنفس”، وهم محقّون بذلك تماماً.

اعتقد أن الاكتشاف الهائل لسيدارتا غوتاما (مؤسس البوذية) هو اكتشافه لهذا الرابط الخفي بين الأحاسيس الجسدية والأنماط الذهنية، حيث أن كل نمط ذهني من دون أي استثناء يسبب ردّة فعل بيولوجية-كيمائية في الجسد يمكننا ملاحظتها واكتشافها من خلال تقنية التأمل. حين نتمكّن من مراقبة الأحاسيس الدفينة هذه في جسدنا، سنتمكّن من تفكيك الأنماط الذهنية التي تقف خلفها، حتى ولو بقيت هذه الأنماط نفسها مجهولة بالنسبة لنا، وهنا أهم ما في الأمر.

سأتوسّع قليلاً في الفكرة السابقة لأن البعض قد يقرأ المقاطع السابقة ويعتقد أن التأمل يجب أن يكون علاج نفسي ذاتي وأنه يجب أن يكون مليئاً بالاكتشافات الذهنية عن ذاتنا وحياتنا وهذا ليس صحيحاً أبداً!

في تأمل الفيباسانا ليس مطلوباً منك أن تربط بين الأسباب والنتائج أو أن تخرج بتفسير عقلاني لأي شيء تمرّ به لأن الأنماط الذهنية تتفكّك بمجرّد عملية التأمل بالطريقة التالية:

  • حين تراقب ذهنك، مرّنت نفسك بأنك لا تتماهى مع الأفكار العشوائية التي يتشبّث بها ولن تدعها تؤثر عليك أو تستخرج ردّة فعل ذهنية وجسدية منك.
  • حين تراقب جسدك وأحاسيسك تمرّن نفسك بأنك لا تتماهى مع الأحاسيس التي تشعر بها أيضاً، وبالتالي تعوّد نفسك على اتخاذ مسافة معيّنة من كلّ احساس من دون أن تقوم بردّة فعل على الاحساس، سواء كان هذا الاحساس مرغوباً ولطيفاً أو كان غير مرغوب ومؤلم.
  • حين تصبح متمرساً بهذه التقنية، تفقد الأنماط الذهنية والأحاسيس الناتجة عنها جزءاً كبيراً من سطوتها وقوّتها عليك لأنك اعتدت على ممارسة “عدم ردّة الفعل” تجاهها، وتخرج تلقائياً من دوّامة ردّة الفعل الدائمة على الأفكار العشوائية والأحاسيس التي يشعر بها الذهن والجسد.
  • وهكذا أي نمط قديم أو جديد يطلّ برأسه لم يعد يملك نفس السطوة عليك ولم يعد لديه القدرة على التحكّم بك عبر الأحاسيس الجسدية التي يسبّبها لك، وتخرج بالتالي من دوّامة ردّة الفعل على الأنماط السابقة ويمكنك أن تعيش حياتك وفقاً لإرادتك الواعية بشكل أكبر بكثير من قبل. أكثر من ذلك، قد تتوقّف يوماً ما عن توليد الأنماط الجديدة تماماً بغضّ النظر عمّا يحدث في حياتك، وهكذا تصبح في مرحلة لا يوجد لك أنماط قديمة تحكمك ولا تولّد أنماطاً جديدة قادرة على حكمك، وهذا هو تحديداً تعريف الشخص المتنوّر في البوذية – أو الشخص الذي توقّف عن توليد السانكارا (ردّات الفعل).

*

من منعزل التأمل خلال الضباب.

*

هنالك محطّة أخرى مهمة جداً على طريق التنوّر هذا وهي الانفكاك عن إدمان أحاسيسنا. حين نكون بعمليّة التأمل هذه، سنلاحظ أن ذهننا يصنّف معظم الأحاسيس التي نشعر بها لواحدة من اثنين: أحساسيس لطيفة ومرغوبة، وأحاسيس مزعجة وغير مرغوبة.

طوال الوقت، يحاول ذهننا التعلّق بالأحاسيس اللطيفة، فيما يحاول التخلّص من الأحاسيس المزعجة. حتى حين يتمسّك ذهننا بإحساس مزعج ما في إحدى التجارب، فهو لأنه يعتقد أن الإحساس اللطيف الذي سيأتي من بعده هو أكثر أهمية (مثل التمرين الرياضي القاسي)، أو لأنه يخشى احساساً أكثر إزعاجاً من الإحساس الحالي (كالاستمرار في علاقة عاطفية متعبة لأن الوحدة أكثر قسوة علينا).

هذا الأمر يختصر الطريقة التي نعيش بها حياتنا التي غالباً ما نقضيها في ملاحقة ما يعطينا أحساساً جميلاً والابتعاد عمّا يعطينا أحساساً سيئاً. الأمر طبيعي جداً لكن المشكلة هنا هي أننا نعيش حياتنا تحت رحمة هذا النمط بالكامل، والمشكلة الاكبر أن كل أحساس هو بطبيعته أمر عابر، فلا يمكن التمسّك بأي احساس جميل لفترة طويلة كما أنه لا يمكن تجنّب الأحاسيس المزعجة طوال الوقت. هذا يعني أننا نعيش دائماً في دوّامة صعبة من الملاحقة والهروب من الأحاسيس.

الحلّ بالنسبة للتأمل هو الانفكاك عن التعلّق بالأحاسيس والتوقّف عن محاولات الحفاظ عليها أو التخلّص منها وقبولها كما هي حين تأتي وتذهب: أي أن نعيش اللحظة السعيدة حين تأتي وأن نتقبل اللحظة الصعبة حين تأتي، والأهم أن نقبل ونفهم أن اللحظتان عابرتان مهما فعلنا.

سنكتشف أيضاً أن العديد من الأشياء التي نفعلها في الحياة وبعضها كبير كالمهنة التي نقوم بها أو العلاقة التي نخوضها أو القرارات التي نتخذها في الحياة، هي فقط بسبب إدماننا على الإحساس الذي نحصل عليه منها. لا أقصد هنا المشاعر بل الاحساس الجسدي البحت الذي يمكننا مراقبته خلال عملية التأمل.

كلّ شيء على الإطلاق في العالم الخارجي له وكل فكرة يخرج ذهننا بها له ردّة فعل بيولوجية-كيميائية في جسدنا، وردّة الفعل هذه في الغالبية الساحقة من الوقت تؤدي إلى تعلّقنا بالاحساس الجميل أو نفورنا من الاحساس المزعج، وتبدأ بإملاء حياتنا علينا من دون أن ندري.

كل إنسان من دون استثناء يعيش تحت رحمة هذين الأمرين من دون أن يدري. التنوّر الحقيقي يحدث حين ندرك هذا الأمر، لا على المستوى الذهني أو الفكري بل على المستوى الاختباري الذي يمكننا أن نعيشه ونراقبه في جسدنا. علينا أن نراقب الأحساسيس وتأثيرها في جسدنا نفسه لكي ندرك هذه الحقيقة، وعلينا أن نمرّن أنفسنا لفترة طويلة على الانفكاك عنها لكي نخطو بضعة خطوات على طريق التنوّر هذا.

الأمر لا يقف هنا، فالنتيجة الطبيعية لتحرير الذات من هذه الدوامة هي أعمق من مجرّد حياة ذهنية ونفسية أفضل. نحن نتحدّث هنا عن التنوّر الروحي.

*

اعرف نفسك: فهم دولاب القدر

لطالما كانت جملة “اعرف نفسك” شعار فلسفي أساسي في معظم المدارس الروحية القديمة. في زمننا الحالي يؤخذ هذا الشعار على أنه يعني فهم الشخصية الفردية كأن تركز على أن تعرف تفضيلاتك وميولك وأنماطك النفسية والجسدية. هذا النوع من المعرفة السطحية ليس المقصود بمعرفة الذات على المستوى الروحي؛ معرفة الذات روحياً تعني أمراً مختلفاً تماماً: اختبار وفهم كيفية عمل الوعي في الجسد، واختبار ومعرفة حقيقة الوجود من خلال الذات.

على المستوى الوجودي الاختباري المُعاش، معرفة الذات تعني معرفة دولاب الرغبة الذي يحرّكنا في عمق تصرّفاتنا المتمثّل بأحاسيس ومشاعر وأفكار؛ ما يُقصد بمعرفة الذات هنا هو اكتشاف عمل هذه الآلية (ملاحقة الأحاسيس اللطيفة والهروب من الأحاسيس المزعجة) وكيفية عمليها على جسدك من خلال مراقبة أحاسيسك وذهنك، وليس بالضرورة معرفة مضمون الأحاسيس والأفكار بحد ذاتها. مضمون الأحاسيس والأفكار هو ثانوي جداً مقارنة مع فهم كيفية حصول هذه العملية في ذهنك وجسدك، أي فهم أنها تحصل بالطريقة التالية:

  • نتعرّض لمؤثر خارجي أو يخرج ذهننا بفكرة داخلية <
  • يتلقاها الجسد بحواسه ويتلقاها الذهن ببنيته وأنماطه المحددة مسبقاً ويهضمها ويحللها <
  • ينتج عن ذلك ردّة فعل بيولوجية-كيميائية عصبية وذهنية تطلق أحاسيس مبطّنة أو ملموسة في الجسد يمكن مراقبتها وفهمها من خلال التأمل <
  • ردّة الفعل البيولوجية-الكيميائية في الجسد-الذهن تؤدي إلى ردّة فعل في العالم الحقيقي، أي تُترجم إلى قول أو فعل في العالم الحقيقي وغالباً ما تكون ردّة الفعل هذه قابلة للتنبؤ مسبقاً لأننا سنكرّر أنماطنا السابقة ونتمسّك بما يعطينا أحاسيس لطيفة ونتجنّب ما يعطينا أحاسيس سيئة <
  • الفعل في العالم الحقيقي هذا سيعزّز نمطنا الخاص بالاستجابة بطريقة مشابهة لنفس المؤثر في المستقبل، أي أن وعي اللحظة الحالية يخلق وعي اللحظة التالية، لأن فعل اللحظة الحالية يخلق فعل اللحظة التالية أيضاً.

*

الوعي اليومي هو كما سبق وقلنا قطار يقود نفسه ذاتياً، لكنّه لا يختار بوعي الوجهات التي يتجه إليها لأنها محدّدة مسبقاً بدولاب القدر: التمسّك بالتجارب اللطيفة والهروب من التجارب المزعجة. ما يحصل عادة، هو أن هذا القطار سيبقى متجهاً بنفس الاتجاه بناء على التجارب السابقة، وهذه التجارب معظمها مجهول بالنسبة لنا لأننا لا نتذكرها جيداً ولأن بعضها قد يعود للطفولة أو حتى لحيوات سابقة (بغض النظر إن كنتم تؤمنون بها، سنناقش الحيوات السابقة في مقالات أخرى إذ لا مجال لمناقشتها بالتفصيل هنا).

معرفة الذات هي معرفة دولاب القدر هذا الذي يحرّك الإنسان، وهنا يجب التحذير من أن فهم هذا المفهوم ذهنياً أو فكرياً لا يعني شيئاً بالنسبة للوعي اليومي ولا يغيّر فيه شيء. يجب معرفة هذه الحقيقة بشكل اختباري حسّي مباشر من خلال التأمل على جسدنا نحن (لا بناءً على أقوال الآخرين)، ويجب أن نفهمها على مستواها الجسدي والذهني والكيميائي في جسدنا الخاص لكي يكون بامكاننا كسر الدولاب. هذه الأنماط تحدث في ما يسمّى باللاوعي، ولا يمكن لفكرة ذهنية تعيش على مستوى الوعي أن تذهب إلى ذلك المكان وتغيّر النمط، علينا أن نذهب بأنفسنا إلى اللاوعي نفسه لكي نغيّر أنماطنا هناك على مستوى أعمق من التفكير العادي.

*

تفكيك الأنا وموت الإيغو

محطّة مهمّة أخرى على هذا الطريق هي كيفية التعاطي مع الأنا. ما نقصد بالأنا هو تلك الشخصية الخارجية التي نرتديها ولها رواية محدّدة نخبرها لأنفسنا وللآخرين. عملية التأمل الحقيقية ستقوم بتحطيمها تماماً.

خلال التأمل سنلاحظ سريعاً أنه لا يوجد “أنا” واحدة في ذهننا، وسننتبه إلى أنه هنالك على ما يبدو العديد من الشخصيات التي تعيش في رأسنا، بعضها قلق وسوداوي، وبعضها طفولي ومازح، وبعضها جدّي ومحترف، وبعضها يشبه أهالينا وبعضها غريب الأطوار. سنلاحظ أيضاً أنها لا تستمرّ طويلاً في مكانها إذ ينتقل ذهننا من واحدة إلى أخرى بلمح البصر.

في لحظات التأمل العميقة سنلاحظ أننا ننتقل من فكرة إلى نقيضها ومن احساس إلى نقيضه بل حتى من شخصية إلى نقيضها من دون أن يكون لنا حقاً أي تحكّم بهذا الأمر. أين هي “الأنا” التي من المفترض أن تكون ذات شخصية واضحة وثابتة وتعيش تجربة وجود موحّدة وطبيعية هنا؟ أي واحدة من تلك الأفكار المتناقضة التي نقفز بينها بسرعة هي “الأنا” الحقيقية من بينهم؟ إن كان الذهن قرداً لهذه الدرجة، هل يصح أصلاً أن نصف ما يمرّ به في كلّ لحظة بـ”أنا”، فهل “الأنا” هي تلك المجموعة من الأفكار المبعثرة التي تتغيّر كل ثانيتين؟

إضافة إلى ذلك، إن كنت أفكّك أنماط ردّات الفعل التي كانت تعيشها الأنا القديمة، فهل هذا يعني أن الأنا القديمة لا تزال حية أم أنها تفكّكت وخلقت من بعدها أنا جديدة خلال عملية التأمل هذه؟

إن كنّا نقوم بعملية التأمل بالطريقة الصحيحة سنصل إلى مكان مهم جداً هنا: ما كنّا نعتقده شخصيّة لنا وأشياء تشكّل جوهر هويتنا هو مجرّد أنماط ذهنية وردّات فعل بيولوجية-كيميائية على أحاسيس نمرّ بها.

حين نفكّك هذه الأنماط ونبدأ بالتوقّف عن ممارسة ردّات الفعل تجاهها، سنبدأ بالانفكاك عن الكثير من الأشياء التي كانت تشكّل أموراً محورية في شخصيتنا القديمة وسنلاحظ تغييراً في علاقاتنا مع الآخرين. في بعض الأحيان قد نعيش تجربة مفاجأة وقاسية لنا تتمثّل بتداعي بنيان شخصيّتنا بأكمله وتبخّر شخصيتنا السابقة كأنها كانت مجرّد قناع خلعناه عنّا – وهذا ما يُعرف في الأوساط الروحية بـ”موت الأنا” Ego Death.

“موت الأنا” هو أمر مرعب بالنسبة للكثيرين ومعظم من يمارسون التأمل يتوقّفون قبل بلوغ هذه المرحلة بكثير لأن “الأنا”، مثل كل كيان واعي في الوجود، سيدافع عن وجوده وسيستخدم كافة الطرق لإيقاف تلك العملية، ومنها حتى تحويل التأمل إلى عملية معزّزة للأنا بدل أن تكون العكس (سنتحدّث أكثر عن ذلك في الفقرة التالية).

أهم ما في الأمر هنا هو أن تحلّل الأنا يعطينا فرصة لمعرفة الذات الحقيقية لأننا بتنا نقف هنا على عتبة التنوّر الروحي الفعلي.

*

اختبار حقيقة الوجود بشكل مباشر

إن كان الذهن يقفز من فكرة إلى أخرى على هواه فيما نراقبه نحن، من هو الوعي الذي يراقب هذا الذهن هنا؟ هل هو مجرّد جزء آخر من ذهننا يراقب الأجزاء الأخرى أم هو شيء آخر؟

السؤال الأهم من ذلك هو، من هي الإرادة التي تحاول أن تباشر عملية المراقبة، ولماذا هنالك مسافة واختلاف واضح بين تلك الإرادة وبين العمليات الذهنية العادية؟

خلال التأمل، سندرك مرّة أخرى عبر التجربة الحسية والاختبار المباشر (لا عبر المفاهيم الفكرية والإيمان الغيبي) أن الإرادة المُراقبة (بضمّ الميم) تملك طبيعة مختلفة عن الإرادة العادية والذهن الواعي اليومي. تفكّك الأنا المُراقَبة (بفتح القاف) يتيح لنا اكتشاف الذات المُراقبة (بكسر القاف).

هذه الإرادة المُراقبة لا يمكن تحديد مكان وجودها أو فهم طبيعتها أو مراقبتها نفسها فهي العين التي تُراقب ولا تُراقب، وهي الوعي الذي يعي التجربة ولا يعيشها، وهي الإرادة التي تريد ولا يمكن أن يُراد لها. إنها اللغز الذي يمكن اكتشافه لكن لا يمكن كشف سرّه. في العديد من التقاليد الروحية القديمة، هذه الإرادة هي طبيعة الوجود نفسه وذاتها هي ذات الوجود، أو بكلمات الأديب جبران خليل جبران، يقول: “العين التي أرى بها الله هي نفس العين التي يراني بها الله”.

موت الأنا واكتشاف لغز العين المُراقبة ليس الأمر الوحيد الذي يقرّبنا خطوة من اكتشاف حقيقة الوجود، بل قد أفاجىء البعض هنا وأقول أنه يمكن اختبار حقيقة هذا الوجود من خلال جسدنا بكل بساطة.

العديد من الأشخاص يعتقدون أنه يجب على الروح أن تقوم برحلة بعيدة ما لكي يروا حقيقة الوجود لكن أجسادنا نفسها تشكّل أفضل نافذة على هذه الحقيقة.

خلال عملية التأمل العميق، حين نركّز على أحاسيسنا، سنجد بأنه لدينا قدرة متزايدة على مراقبة أحاسيس مبطّنة وأكثر خفية على جسدنا لم نكن نشعر بها سابقاً. في تجربة الغالبية الساحقة من المتأملين الروحيين عبر العصور، سنتمكن من مراقبة احساس محدّد جداً في جسدنا: ذبذبات لطيفة خفيّة غير مادّية.

هذه الذبذبات لها تردّد مختلف أيضاً بحسب الإحساس أو الفكرة التي تقف خلفها: الغضب له ذبذات مختلفة عن الحب وهكذا دواليك. في لحظات نادرة لن تتعدّى بضعة ثوانٍ على الأكثر، ستختفي حتى هذه الذبذبات وتحلّ مكانها موجة غريبة على كامل الجسد، كأنها موجة من النور، وسيختفي الشعور بفيزيائية الجسد وفيزيائية الوجود ليحلّ مكانه الشعور بالوجود كموجة من الذبذبات الفائقة الدقة.

هذه التجربة ليست إيماناً غيبياً أو فكرة فلسفية ذهنية، بل نافذة اختبارية ومباشرة لطبيعة الوجود نفسه، وهو وفقاً لمدارس الحكمة القديمة يتمثّل بثلاث ركائن أساسية:

  • الوجود في جوهره ليس مادياً بل عبارة عن ذبذبات طاقوية (وهي فكرة ينسجم معها العلم بكونه يثبت أن الوجود بأكمله مؤلف من ذريات الكوانتوم غير المادية التي تشكّل ذبذباتها المختلفة الأشكال المختلفة للوجود).
  • الكائنات والأشياء المادية كلّها لها ذبذباتها الخاصة، والأفكار والمشاعر لها ذبذباتها الخاصة بها أيضاً وحضورها (طاقوياً) ملموس في الوجود المادي.
  • الوجود واحد لأنه مكوّن في جوهره من نفس الأمر، وطبيعة الوجود نفسه هي غير منفصلة عن الوجود، أي أن الجوهر والحياة هما واحد والأمر نفسه – أي أن الله والكون هما الأمر نفسه. بعبارة أخرى: وحدة الوجود.

تعليقاً على الفكرة الأخيرة، أفضّل شخصياً أن أسمّي طبيعة الوجود بالإرادة الكونية أو الجوهر الأساسي، ولا أحبذ تسميته بالله لأن الله مفهوم وكينونة محدّدة جداً ولها ذبذباتها الخاصة التي تغذّي وتتغذى من ملايين الناس وليست طبيعة الوجود نفسه.

بعبارة أخرى، الحقيقة التي يمكن اختبارها من خلال التأمل هي أن حقيقة الوجود هي وحدته، وحقيقة وحدته هي تشارك كل ما فيه بنفس الجوهر، وحقيقة جوهره هي كل شيء ولاشيء، هي اللغز. نفس الجوهر الذي تنبثق منه النجوم والشموس والقمر هو الجوهر الذي ينبثق منه العصافير والشجر والبشر.

يمكننا التحدّث عن لغز الوجود لسنوات ويمكنني كتابة مجلدات عن الخلاصات المرتبطة بذلك  لكنني سأتوقف هنا لأترك التفسيرات لتجربة كل شخص بنفسه، فأهم ما في التأمل وفي مدارس الحكمة هو أنه لا يجب إقناع أحد بأي فكرة ولا يجب الإيمان بشيء، بل التوصية الوحيدة هي الاختبار الحسّي المباشر بأنفسكم ومن خلال جسدكم وذهنكم وإرادتكم.

 “لا شيء حقيقي، كل شيء ممكن”، يقول شعار الأحرار القدماء، وأهم ما في هذا الشعار هو أنه يُعتبر مدخلاً لفهم الوجود والخطوة الأولى على طريق الحكمة، لا الحكمة بحد ذاتها.

*

 محاذير على طريق التأمل والحكمة

حين يقرأ البعض المقاطع السابقة قد يعتقد التالي: “حسناً يبدو أن الجميع يمكنه اختبار حقيقة الوجود بسهولة، وعليّ القيام بذلك أيضاً”، وهذه هي الخطوة الأولى لإيقاف نموّهم الروحي فوراً.

التنوّر الروحي لا يمكن أن يتم عبر السعي لتجربة اختبار الحقيقي أو حتى عبر السعي للتنوّر نفسه، والنتيجة الوحيدة لوضع هذا السعي كهدف هو الإحباط وخداع الذات. التأمل بحدّ ذاته لا يضمن حصول أي تجربة ذهنية أو روحية مما ذكرناه سابقاً، والدخول إلى التأمل بهذا الهدف يضرّ عملية التأمل نفسها التي يجب أن تكون من دون هدف، لأن التأمل يجب أن يكون الهدف، لا نتائجه.

هذا أولاً. ثانياً، التأمل لا يضمن التنوّر الروحي أيضاً. أكرّر مرّة أخرى: التأمل، حتى ولو كان لأيام وأسابيع وسنوات، لا يضمن التنوّر الروحي.

لقد صادفت في حياتي أشخاصاً مارسوا التأمل لساعات طوال سنوات ولم يقتربوا خطوة واحدة من التنوّر الروحي. السبب معروف: نواياهم في التأمل – نواياهم الدفينة لا المُعلنة – مرتبطة لديهم بتعزيز “الأنا”. هذا هو الفخّ الأوّل الذي يجب أن نحذر منه في التأمل: فخ الدخول إلى التأمل مع هدف محدّد.

الأمر يصبح معقداً قليلاً هنا لأن التأمل نظرياً يهدف لرفع مستوى الوعي وبلوغ التنوّر الروحي لكن التنوّر الروحي يفشل في اللحظة التي يصبح فيها هدفاً بحد ذاته. تحقيق أهداف من هذا النوع هو ممارسة لـ”الأنا”. في اللحظة التي نسمح فيها لـ”الأنا” بتحديد الأهداف سيكون التنوّر مستحيلاً، لأن التنوّر يتطلّب بطريقة أو بأخرى تفكيك هذه “الأنا” ورؤيتها على حقيقتها كمجرّد وعي عابر متغيّر ومحكوم بالظروف الدنيوية.

من يدخلون إلى التأمل بهدف اكتساب المزيد من القوّة الذهنية أو النفسية أو الجسدية أو الروحية، أو بهدف عيش تجربة روحية معيّنة، يمكنهم بالتأكيد اكتساب المزيد من القوّة وعيش تجربة روحية معيّنة، لكن بدل أن تقرّبهم هذه التجربة خطوة من التنوّر الروحي، سيكونوا يتحرّكون في الواقع في الاتجاه المعاكس تماماً. تجربة حقيقة الوجود والتنوّر الروحي أمران مختلفان وحصول الأولى لا يضمن حدوث الثانية. التجارب الروحية الاستثنائية تُستخدم في أحيان كثيرة كتعزيز لـ”الأنا” وكعنصر إضافي في رواية الشخصية الأرضية التي نرتديها.

هنالك العديد من الأشخاص الذين يعيشون تجربة روحية معيّنة وبدلاً من أن يدركوا حقائق الوجود، سيخرجون بهذه الرواية الضخمة عن كونهم متنوّرين ومعلّمين روحيين وأشخاص استثنائيين في العالم، وهي كلّها روايات تعزّز “الأنا”، وسيبدأون بوضع كل تجربة روحية وكل تفاعل مع الآخرين في هذا السياق الذي يرون أنفسهم فيه أعلى وأفضل من الآخرين. في تلك اللحظة تحديداً يضعون حداً قاتلاً ونهائياً لتنوّرهم الروحي وتصبح المسافة بينهم وبين الحقيقة والتنوّر أبعد مما كانت عليه قبل مرورهم بهذه التجربة.

في الأدبيات البوذية، عيش تلك التجارب الروحية الوجدانية هو أخطر ما يمكن أن يمرّ به الباحث الروحي لأنها يمكن أن تنهي كل التقدّم الذي حقّقه وترميه في الاتجاه المعاكس. لذلك الشجاعة الروحية والذهنية هي أمور مهمّة جداً حين نخوض هكذا تجارب، لأنه علينا أن نكون واضحين في نوايانا وصادقين مع أنفسنا ومستعدّين للتخلّي عن أي رواية أو تبرير ترتبط بتعزيز ذلك القناع الذي نرتديه. علينا أن ننتبه إلى أن قيام الأنا باستلاب هذه التجربة وتحويلها لمصلحتها هي إحدى التكتيكات التي تستخدمها للحفاظ على نفسها بوجه هذه التجربة الروحية، فلا تقعوا في الفخ.

في دورة التأمل نفسها، صادفت بعض الأشخاص الذي قاموا بنفس الدورة لسبع مرّات وأكثر، وحين سألت المعلّم عن ذلك الأمر أشار لي إلى مسألة مهمة جداً: يبدو أن هؤلاء علقوا بدولاب القدر من جديد وبدل أن يتخلصوا من إدمانهم وبحثهم عن الأحاسيس اللطيفة وهروبهم من الأحاسيس المزعجة، ها هم يستخدمون التأمل نفسه لملاحقة الإحساس اللطيف الذي تعطيه التجربة الروحية لهم وللهروب من مشاعرهم المزعجة التي تلاحقهم في حياتهم اليومية.

هنالك عدد كبير من الناس يتعاطون مع التأمل بهذه الطريقة ويرونه مجرّد وسيلة أخرى للاستمرار في نفس النمط. هذا يعني أيضاً أنهم لن يتقدموا في هذا الطريق الروحي لأنهم لم يبنوا مسافة المُراقب بينهم وبين التجربة الحسّية والذهنية اليومية التي يعيشها الجسد.

هؤلاء الناس غالباً ما يقعون في فخّ إدمان التأمل الذي يواظبون على ممارسته لساعات كلّ يوم. التأمل، وخاصة الأساليب التي تتضمّن تكرار جمل معيّنة، يضع الذهن والجسد في شعور لطيف يشبه الطفو بلطف على سطح الوجود، ويجعل مشاكلك ومشاعرك السيئة تبدو كأنها بعيدة عنك، وهكذا يبدأ هؤلاء بإدمان هذه الحالة والبحث عنها باستمرار لدرجة أنهم مثل أي مدمن، ينزعجون ويرتبكون ويغضبون حين يمرّ عليهم يوم لا يمارسون فيه التأمل لهذا الوقت الطويل.

إلى ذلك، هنالك عادة رواية للأنا ترتبط بهذا الإدمان، حيث ترى الأنا أنها تكتسب المزيد من القوّة والتنوّر كلما مارس الشخص التأمل لفترة أطول، ويصبح التأمل مجرّد وسيلة من الوسائل التي يستخدمها “الأنا” لتعزيز روايته عن نفسه.

هذا هو الأمر الثاني الذي يجب أن نحذر منه في التأمل: لا تقعوا في فخ ادمان التأمل ولا تبالغوا بالاعتماد عليه كأسلوبكم الأساسي للتكيّف مع صعوبات الحياة أو لتغذية رواية الأنا لديكم، لأنكم بهذه الطريقة تتوقّفون عن الاستفادة منه وتعودون إلى العيش تحت رحمة دولاب القدر. كما معظم الأشياء في الحياة اعتقد أنه يجب ممارسة التأمل باعتدال، إلا إن أردتم أن تكونوا رهباناً، وفي هذه الحالة اعتقد أن المعبد هو البيئة المناسبة لهذا الأمر لا الحياة المدنية العادية لأن بيئة المعبد ستحصّن الشخص من تطوير رواية “أنا” هائلة عن نفسه.

إلى ذلك، لا يجب أن ننزلق إلى فكرة أن الذهن الهادىء والذهن الخامل هما الأمر نفسه؛ الذهن الهادىء هو ضرورة وشرط أساسي للوعي الأعلى، لكن الذهن الخامل أو الخائف الذي يلتجأ إلى التأمل للهروب من معضلات الحياة العادية هو النقيض من ذلك. الإبداع والفعالية والذهن القادر على التفكير بوضوح ودقّة هي أمور نحتاجها في الحياة ويجب الانتباه إلى طريقة تعاطينا مع التأمل لكي نحقّق ذلك.

*

بعض الملاحظات على أسلوب الفيباسانا

تقنية التأمل التي تعلّمتها في العام 2011 كانت وفقاً لمدرسة ماهاسي سايواداو، فيما دورة الفيباسانا التي شاركت بها هنا هي وفقاً لمدرسة ساياغاي أوبا كين (عبر ساتيا نارايان غوينكا).

هنالك بعض الفروقات بين المدرستان، فمدرسة ساواداو تعتمد على التأمل عبر المشي إضافة إلى الجلوس، وتركّز على منطقة البطن في التنفّس بدلاً عن الأنف، كما يوجد فيها ممارسة اسمها “الملاحظة” Noting التي تهدف إلى ملاحظة الأحاسيس والمشاعر والأفكار المختلفة التي تمرّ علينا وهي ممارسة تساعد كثيراً على تفكيك الأنماط العميقة لدينا، وهذه الممارسة غير موجودة في مدرسة غوينكا. هنالك أيضاً طريقة خاصة في التأمل للتعامل مع الأنا موجودة في مدرسة ساواداو وغائبة تماماً في مدرسة غوينكا لكنني لن أدخل بها هنا.

الممارسة الرئيسية للفيباسانا تتمثّل بمراقبة التنفّس والجسد، وهي الطريقة البوذية الرئيسية للتأمل وهي الطريقة التي علّمها مؤسس البوذية سيدارتا غوتاما قبل 2500 عام. هذه الطريقة في التأمل موجودة في كافة مدارس الحكمة القديمة في منطقة المتوسّط أيضاً ونجد إشارات لها في المدارس النيو-أفلاطونية والهرمسية والغنوصية، وهي مشابهة لما يُعرف بـ”المُراقبة” لدى الصوفيين المسلمين. بطبيعة الحال، الفيباسانا هي برأيي الشخصي حجر أساس لأي ممارسة روحية جدّية لأنها الفارق بين فهم الوجود على صعيد فكري وبين اختباره بشكل حسّي مباشر بأنفسنا.

رغم ذلك، اعتقد أنه هنالك بعض مواطن الضعف في الطريقة الأكثر انتشاراً حالياً لتعليم الفيباسانا (مدرسة غوينكا)، منها أولاً أن الجلوس لهذه الفترة الطويلة خلال الأيام العشرة (13 ساعة جلوس في اليوم، منهم 12 ساعة تأمل)، يعني أن تركيز الشخص سينتقل للصراع مع الجلوس وآلامه بدل تحقيق المزيد من التقدّم في عمليّة التأمل. شعوب البلدان غير الآسيوية خصوصاً غير معتادة على الجلوس على الأرض لهذه الفترة الطويلة، ورغم أن التأمل يساعد على التعامل مع الألم وحتى تجاوزه في مرحلة معيّنة إلا أنني أفضل لو كان هنالك تأمل-المشي كما في مدارس الفيباسانا الأخرى التي تقسم ساعات التأمل بالتساوي بين المشي والجلوس.

لدي أيضاً تحفظ بسيط على تشديد الفيباسانا على المراقبة الجسدية البحت في المراحل الأولى من التأمل؛ على سبيل المثال إن شعرت بالألم في مكان معيّن من جسدك، توصية الفيباسانا هي مراقبة الألم جسدياً فقط، لكن في مدارس أخرى هنالك تركيز أيضاً على مراقبة المشاعر والأفكار التي تأتي مع هذا الألم للتعمّق في مصدره وفهمه. الألم (وكل احساس جسدي) هو مرسال لشيء معيّن وهو يأتي ليخبرك شيئاً معيناً ويمكنك اكتشاف هذا الشيء عبر المراقبة الصحيحة لكلّ ما يرتبط به، لكن في الفيباسانا لا تحصل تلك المراقبة المعمّقة وقد يعود الألم مجدداً ومجدداً من دون أن تعلم ما الذي تتعاطى معه تحديداً.

أفهم لماذا تقوم الفيباسانا بذلك، فهدفها هو تعزيز ممارسة المراقبة البحتة لكلّ شيء وتجنّب انخراط الذهن أو النفس في عملية المراقبة، لكنني اعتقد أن أسلوب المراقبة الشاملة (أي الذي لا يكتفي بالمراقبة الجسدية البحت) له فوائد جمّة للتعاطي مع هذا النوع من الامور ولفهم الذات لدرجة أكبر، وخصوصاً في المراحل الأولى من التأمل.

إلى ذلك، لدي بعض التحفّظات الروحية والفلسفية التي لا ترتبط مباشرة بالفيباسانا بل بالبوذية ككل، منها مثلاً النظرة السلبية نوعاً ما للحياة التي تتمثّل بالحقيقة الأولى التي ترتكز عليها الأطروحة البوذية والتي تقول “الحياة هي معاناة”. البوذية التقليدية ترى أن الحياة هي صراع مستمر ضد المرض والشيخوخة والموت والانفصال عمّن وما نحب، ولذلك فالهدف الأساسي بالنسبة لها هو إيقاف هذه المعاناة عبر الانفكاك ومن بعدها إيقاف عمليّة التقمّص (أي العودة إلى الحياة بجسد جديد) لإيقاف هذه المعاناة من جذورها.

هذه النظرة ربّما محقّة من ناحية الوقائع البحت لكنني أراها سلبية جداً من الناحية الوجودية. الحياة بالنسبة لي هي فرصة رائعة لاختبار الوجود ولاختبار الحب وللنموّ في هذا الوجود بكلّ ما فيه، وبدل الهروب منها نحن نتعلّم روعتها ونتعلّم كيف نتجاوزها نحو ما هو أكثر روعة بعد. بدل أن أرى الحياة سجناً مزعجاً، أراها مغامرة يجب الاستمتاع بها، وبدل أن أرى صعوبات هذه الحياة ونهايتها المحتومة على أنها تراجيديا محزنة، أراها قصّة مفعمة بالأحداث والروعة ولحظة تعبير الوجود عن نفسه بطريقة مدهشة حتى ولو كان لها بداية ونهاية. بدل أن أرفض الجانب المظلم من الحياة، اعتنقه، لأنه يكمل دائرة ما يجب أن نتعلّمه من حياتنا القصيرة هذه.

معضلتي الثاني هي أن البوذية كالأديان الأخلاقية الكبرى (اليهودية، المسيحية، الإسلام، الهندوسية)، تركّز على تنظيم علاقة الناس ببعضهم البعض على أساس الالتزام الأخلاقي بما يجب أن يكون، لا على أساس الوجود والإنسان كما هو.

رغم أن البوذية تمتلك توصية أخلاقية صارمة جداً فيما يتعلّق بالحيوانات (عدم القتل، حتى للغذاء)، تركيزها الأساسي يبقى على العلاقة مع الذات والجسد والذهن، أما بقيّة العالم ومخلوقاته فهم مجرّد خلفية صامتة لا تستحقّ عناء اعتبارها وبناء علاقة ما معها.

كنت أودّ كثيراً خلال دورة التأمل أن افتح عيناي واتواصل مع الشجر والنباتات والأزهار والملخوقات والعصافير وأن أراقبها هي أيضاً وأن استمع لما يمكن أن تقوله لي، لكنها مجرّد تفاصيل ثانوية بالنسبة للديانات التي تعتبر المعضلة الأساسية في الوجود هي كيفية التخلّص من هذا الجسد والهروب من هذا الوجود.

السؤال الذي بقي على ذهني خلال دورة التأمل والذي كنت اتوقع أحياناً أننا سنصل إليه خلال يوم أو آخر، هو السؤال حول “ما الذي يريد التحرّر تحديداً من هذا الجسد؟ ما هو هذا الأمر الذي يصل إلى فهم الوجود ويحدّد إرادة لتجاوزه؟”.

كنت أتوقع أن يطرح أحدهم هذا السؤال أو أن تتعرّض إحدى المحاضرات المسائية له، لكن رغم تناول العديد من المواضيع الروحية والفلسفية في تلك المحاضرات إلا أن هذا السؤال لم يأتي أبداً. كان هذا الأمر غريباً بالنسبة لي لأن التأمل هو الطريقة العملية الرئيسية لإيجاد هذا الجواب تحديداً، وهنا أدركت أمراً أذهلني للوهلة الأولى ألا وهو أن الحاضر الأكبر في كافة مدارس الحكمة القديمة هو الغائب الأكبر هنا.

لعلّ الأمر مقصود لتجنّب الغرق في النقاشات الروحية والفلسفية العقيمة، لكن المحرّك الأساسي والفاعل الحقيقي لكلّ عملية تأمل ولكل تنوّر روحي هو كلمة بسيطة جداً: الإرادة. إرادة الروح.

*

نحو تجاوز الإنسان؟

التعبير عن مفاهيم الإرادة والروح عبر الكلمات والكتابة هو أمر شبه مستحيل لأننا نتحدّث هنا عن أشياء يمكن اختبارها ولا يمكن وصفها. إن حاولنا التعبير عنها بهذه الطريقة فنحن نخاطر بتشويهها وبتأطير تجربة الآخرين لها. ما يمكنني أن أقوله باختصار هنا هو أن الإرادة هي القلب الحقيقي لكلّ عملية تنوّر روحي وأن كل باحث روحي عليه أن يبقي هذه الحقيقة في قلبه طوال الوقت.

كنت اعتقد في الماضي أن الروح هي الوعي وأن كل تجربة روحية هي تجربة في عوالم الوعي، لكن الاكتشاف الروحي الأهم بالنسبة لي خلال هذه السنوات كان اكتشافي بأن الروح هي في الواقع الإرادة وأن الوعي هو نتيجة جانبية لذلك.

الوعي هو وسيلة الإرادة للتعبير عن نفسها وللفعل في الوجود، مثلما أن الجسد هو وسيلة الذهن للتعبير عن نفسه وللفعل في العالم الفيزيائي، وكما أنه لا يوجد ذهن من دون جسد، لا يوجد وعي من دون إرادة.

في الواقع، الإرادة والوعي والوجود هي الأمر نفسه في جوهرها وهي الانبثاق الأوّل المباشر من “الواحد” الذي يشكّل أصل كل الأشياء. في الهرمسيّة والنيو-أفلاطونية الانبثاق الأول من الواحد هو “النوص” – أي الوعي والوجود، وفي المسيحية الباطنية الانبثاق الأوّل هو الكلمة (أي فعلياً، الإرادة-الوعي)، وفي الصوفية الإسلامية أول ما يخرج عن الله هو “نور الهادي” وهو إرادة الله بإظهار نفسه.

الأديان الأخلاقية الكبرى تركّز على تنظيم وتهذيب والتحكم بـ أو تجاوز الرغبة البشرية. الأديان الأكثر باطنية والأقل انتشاراً منها (وبعضها منبثق أو يشكل طوائف باطنية ضمن تلك الأديان الأخلاقية) تركّز على تنظيم وتهذيب والتحكم بـ أو تجاوز الذهن.

أما مدارس الحكمة الحقيقية، فهي تركّز على الإرادة، لأن الإرادة هي التي تقود الذهن وهي التي ترسم الرغبة.

معظم الباحثين الروحيين سيركّزون في بداية طريقهم الروحي على التعامل مع رغباتهم البشرية. إن ثابروا واستمروا، سينتقلون في منتصف هذا الطريق إلى تجاوز الرغبة والتعامل مع الذهن والأفكار التي توجّه دولاب القدر، لكن إن ثابروا أكثر واستمرّوا، ففي بقيّة الطريقة عليهم أن يتعاملوا مع الإرادة وأن يكتشفوا إرادتهم الحقيقية.

إن الدرب الروحي ما هو سوى عملية اكتشاف لهذه الإرادة وإعادة وصلها بالإرادة الكونية الحقيقية. في بعض مدارس الحكمة هنالك تمييز بين الإرادة اليومية العادية وبين الإرادة الروحية الأعلى حيث تسمّى بـ True Will لأنها إرادة لم تعد محكومة بالبرمجة الثقافية والاجتماعية والعمليات الكيميائية-البيولوجية للجسد والذهن بل تجاوزتهما إلى ما هو أبعد.

هذا التجاوز – أو تلاحم إرادتنا مع الإرادة الحقيقية – يحصل أحياناً لبضعة لحظات وهو جوهر تلك التجارب الروحية التي تُوصف لدى الصوفيين القدماء بالانخطاف. الدرب الروحي هو إذاً عملية تجاوز مستمرّة للإنسان، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك على أساس أن الإنسان هو مخلوق ناقص، بل على أساس أن الإنسان هو مشروع قيد التطوير. لعلّ الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه كان روحياً أكثر مما يعتقد بكثير حين جعل من اكتشاف هذه الإرادة الهدف الإنسان الأعلى.

التنوّر الروحي الحقيقي هو تلك اللحظة الفريدة التي تصبح فيها إرادتنا والإرادة الحقيقية واحدة.

هي تلك اللحظة التي نكون فيها وعي وكينونة وإرادة خالصة فحسب.

هي تلك اللحظة التي يمكن فيها أن نكون وأن نصبح في الوقت نفسه.

هي تلك اللحظة التي يكون فيه الوجود وجوهره واحد.

ومن له إذنان فليسمع.

Posted on جوان 16, 2020, in مقالات رأي, تأمّل, شهادات شخصية and tagged , , , . Bookmark the permalink. 2 تعليقان.

  1. عشت التجربة مرة وجعلتني استحضرها واعيشها مرة أخرى .
    والذكرى (أحيانا ) تنفع المؤمنين

    شكرا وخالص الامتنان

  2. من فرط روعة التجربة و بهاء السرد اخترت ان اقرأها مرتين، و سأعود
    شكرًا لأنك شاركتنا إياها.

أضف تعليق