الخرافة الأولى أم مغامرة الروح الأولى؟ نقاش حول التناقض بين الروحانية والعلم

 *

طوني صغبيني

*

هل هنالك تناقض بين الروحانية والعلم؟ اعتقد أن معظم الملحدين سيجيبون على هذا السؤال بنعم، وسيقولون أنه بالتأكيد هنالك تناقض بين العلم وكافة الأفكار والممارسات الروحية!

سأناقش في هذا المقال أنني لا اتفق مع هذا الجواب، بل اعتقد أن السؤال نفسه غير منطقي لأنه يشبه السؤال حول ما إذا كان هنالك من تناقض بين التفاح والبرتقال. العلم والروحانية هما أمران مختلفان، وينطلقان من أسئلة مختلفة حول العالم ويصلان إلى أجوبة مختلفة، تتفق أو تختلف بينهما، لكن كلاهما حاجاتنا أساسيتان لحياتنا العصرية – وهذا ما أريد أن اتحدّث عنه هنا.

قد يبدو ما أقوله هنا محيّراً للملحدين والمؤمنين على السواء، وخصوصاً لنا في العالم العربي حيث كل شيء قائم على الثنائيات المتعارضة بالمطلق، فكيف أقول إذاً أن أمران مختلفان عن بعضهما تمام الاختلاف مثل العلم والروحانية يمكن أن يتكاملا، من دون أن أقع في فخ سوء فهم كلاهما في آن معاً؟ فلنناقش ذلك قليلاً.

*

ما هي الروحانية؟

علينا أن نقوم أولاً بتفكيك معنى الروحانية لأن الطريقة التي نعرّف بها هذه الكلمة فيها الكثير من الشوائب.

التعريف الشائع للروحانية هو أنها الإيمان بالماورئيات التي لا يوجد عليها دليل علمي أو إثبات عقلي قاطع، كالروح والحياة بعد الموت وخلق الله للكون والكتب المقدسة والأنبياء والآلهة. المشكلة الأولى في هذا التعريف هي أنه يتمحور إلى حد كبير حول معتقدات الأديان الإبراهيمية. هنالك العديد من الأديان في العالم التي لا تؤمن بالجنة والنار، ليس لديها أسطورة خلق محدّدة، ولا تؤمن بكتب مقدّسة أو أنبياء أو آلهة، فهل عدم إيمانها بهذه الأشياء يعني أنها ليست أديان روحية؟

فلنأخذ البوذية كمثال لاختبار ذاك التعريف. الركيزة الأساسية للمعتقد البوذي هو الإيمان بما يعرف بالحقائق النبيلة الأربعة، وهي:

  • المعاناة هي من طبيعة الحياة (أو “الحياة هي معاناة”، بحسب اختلاف الترجمة والمدرسة الروحية)
  • أصل المعاناة يعود إلى محاولتنا للتمسّك باستمرار التجارب الممتعة وتجنّب التجارب المؤلمة. بعبارة أخرى، تعتبر البوذية أن أصل المعاناة يبدأ في الذهن الذي يرفض التعامل مع حقيقة الحياة، إما بسبب الجهل أو بسبب الرغبة.
  • التغلّب على المعاناة أمر ممكن.
  • يمكن التغلّب على المعاناة عبر ما أسماه غوتاما بوذا الطريق الثماني الأضلاع، أي عبر: الفهم السليم (للحقائق الأربعة)، النية السليمة، الكلام السليم، الأفعال السليمة، كسب الرزق السليم، الجهد السليم، الذهن السليم، والحالة التأملية السليمة (الأخيرة يتم ترجمتها أحياناً بـ”التركيز” لكنها أكثر من ذلك).

 

كما نرى هنا، لا يوجد أي شيء من هذه الحقائق يتطلب الإيمان بأشياء ماورائية خارقة للطبيعة[1]. هنالك فرق شاسع هنا بين أركان البوذية مثلاً وأركان الأديان الإبراهيمية حيث يحتل الإيمان الماورائي رأس القائمة، سواء كنّا نتحدّث عن شرط الإيمان بالله ورسوله كما في الركن الأوّل للإسلام، أو شرط الإيمان بالله والمسيح والروح القدس لدى المسيحيين. الفلسفة البوذية هنا قائمة بالكامل على العلاقة مع الذات أولاً، وعلاقة هذه الذات مع العالم من حولها ثانياً.

لذلك التركيز على الإيمان بالمعتقدات الغيبية لا ينفع كتعريف للروحانية لأنه هنالك اختلافات جوهرية بين مختلف المعتقدات كما أنه هنالك جزء كبير من الفلسفات الروحية حول العالم لا تمتلك هذه الغيبيات الإيمانية. كيف نعرّف الروحانية إذاً؟

الجواب بسيط جداً: الروحانية هي علاقتنا مع العالم من حولنا. الدين قائم على المعتقدات. الروحانية قائمة على العلاقات. الاثنان يتقاطعان أحياناً، لكنهما يتعارضان بقوّة أيضاً (التوتّر بين الروحانية “الحرّة” والأديان الرسمية هو أمر قديم بقدم الأديان).

اعتقد أن العديد من الملحدين والماديين يواجهون معضلة في فهم هذا الجوهر – جوهر أن الروحانية ليست إيماناً وجدانياً فحسب بل علاقة تؤثر على روابطنا ورؤيتنا لكل ما هو حولنا. سأذهب إلى نقطة أبعد من ذلك وسأقول التالي: كل علاقة مع العالم من حولنا هي علاقة روحية وأن نكون بشراً يعني أن نكون روحانيين أولاً وأخيراً؛ الأمر هو جوهر إنسانيتنا. قد يكون ذلك زعم جريء ومنافٍ للعقل، أليس كذلك؟ سأشرح أكثر.

*

حين فتحت أبواب الكون أمامنا

هنالك تطوّر مثير جداً للاهتمام حصل لأسلاف الفصائل البشرية منذ 800 ألف عام، حيث شهد  دماغ الإنسان المستقيم  مضاعفة في حجمه خلال فترة قصيرة، وأدى هذا التطوّر على ما يبدو إلى ظهور فصيلة الإنسان العاقل الذي حقّق قفزات نوعيّة في علاقتنا مع أنفسنا والعالم. في تلك الفترة أنشأنا الفنون واللغة واخترعنا الأدوات وبنينا المستوطنات الدائمة وبنينا قبائل اجتماعية معقّدة لها نظرتها للعالم وأسلوبها الخاص في العيش. المثير للاهتمام أن هذه الفترة شهدت أيضاً أولى التعبيرات الفنية عن اعتقاداتنا الروحية على وقع إدراكنا لأشياء مثل الموت والحياة وما يتجاوزهما.

لا يوجد تفسير علمي قاطع اليوم يحدّد أسباب ذلك التطوّر السريع في الوعي البشري في تلك الفترة، لكن هنالك عدّة نظريات مثيرة تدرس ذلك.

بعض النظريات تركّز على التقلّبات المناخية القاسية التي شهدها الكوكب في تلك الفترة وتعتبر أن تطوّر الدماغ والوعي بهذه الطريقة كان رداً تكيّفياً على ذلك. نظريات أخرى، كنظرية مخطط التحكم بالانتباه The Attention Schema Theory تقول أن الوعي تطوّر كأسلوب للتحكم بالانتباه في عالم مليء بالمعلومات والتغيّرات. بعض النظريات تذهب في اتجاه مغاير تماماً – مثل نظرية “القرد المحشّش” (نعم إنه الاسم الرسمي للنظرية[2])، التي تقول أن الفصائل البشرية تطوّرت بسبب تعاطينا للفطريات المهلوسة، التي أعطت دفعة قوية لأدمغتنا البدائية وقتها وأطلقت ثورة في مجال الوعي.

بغضّ النظر عن الأسباب، اكتسابنا للوعي هو حدث هائل غيّر علاقتنا مع كل شيء ولا يزال عصياً على التفسير، لأننا لا نفهم تحديداً بعد ما هو الوعي. يقول المفكّر سام هاريس حول هذا الأمر:

“حقيقة أن الكون مُضاء حيث تقف – حيث يمكن لأفكارك ومزاجك وأحساسيك أن تكون موجودة فيه بطريقة محدّدة في هذه اللحظة – هو لغز، لا يتجاوزه سوى لغز أنه لا بدّ أن يكون هنالك وجود بدل أن يكون هنالك لا شيء من الأساس. رغم أن العلم يمكن أن يظهر لنا كيف يمكن أن نحسّن عافيتنا لأقصى درجة ممكنة، قد يفشل في حلّ اللغز الأساسي لكينونتنا نفسها”[3].

القفزة التي حققناها في الوعي البشري جعلتنا ندرك أشياء لم نكن ندركها سابقاً وأتاحت لنا بناء علاقة مع العالم تتجاوز ما ندركه بحواسنا الخمسة. الوعي أتاح لنا أن ندرك شيء اسمه الذات مثلاً، رغم أن الذات أمر لا يمكننا رؤيته أو لمسه أو إثبات وجوده حتى. الوعي أتاح أن ندرك الماضي والمستقبل والمعادلات الرياضية والنظريات الفيزيائية التي تحكم الوجود. أتاح لنا أن ندرك ونفهم الأشياء البالغة في الصغر التي لا تراها أعيننا والأشياء البالغة في الكبر التي لا تفهمها عقولنا.

مع اكتسابنا للوعي، تحوّلت علاقتنا مع أنفسنا والعالم من علاقة بيولوجية بحتة تقتصر على تحصيل الغذاء وضمان البقاء، إلى علاقة معقّدة متعدّدة الأبعاد، إلى علاقة تتجاوز المادة، إلى علاقة روحية. الوعي أتاح لنا أن نرسم حرفاً على حجر، وأن نجعل للحرف صوتاً وللصوت كلمة وللكمة معنى. الوعي فتح لنا أبواب العالم.

السؤال هنا هو: هل معتقداتنا الروحية التي بدأت بالظهور وقتها هي خرافات خرج بها عقل لم يكتمل نموّه بعد، أم هي التعبير الوجداني والفنّي والأدبي لأشياء حقيقية اختبرها وعينا حين فتحت لنا أبواب الكون على مصراعيها؟

الإثنان معاً.

جزء كبير من معتقداتنا الروحية هو من دون شك نابع من محاولاتنا لفهم هذا الكون الذي فُتحت أبوابه فجأة أمامنا، حاولنا إكمال رسمة هائلة بوسع امتداد الوجود بما توفّر لنا من مواد فنّية وذهنية ونفسية محدودة، لكن هذا نصف القصّة فقط.

الوعي اليومي الذي نعيش فيه كل يوم لا يشكّل سوى جزءاً صغيراً من وعينا الأكبر في الوجود، وفي الجزء الأعمق من وعينا، أتيح للملايين منّا على امتداد آلاف السنوات لاختبار أبعاد أخرى لهذا الوجود والقيام برحلات بعيدة فيه، رأينا فيها ما هو رائع وما هو مخيف، وما هو عادي وما هو مثير للدهشة. حين تمكّنا لسبب أو لآخر بإزاحة الستار للحظات عمّا يقع وراء وعينا العادي، تغيّرت علاقتنا مع العالم ومن هذه العلاقة الجديدة – ومن محاولتنا لفهم ما اختبرناه، انبثقت الروحانية وكل ما يرتبط بها. تجاربنا الروحية كانت ولا تزال حقيقية، لكن تعبيراتنا عنها كانت مجرّد تصوّرات بشرية اختلفت بحسب الزمان والمكان.

بكلمات هاريس أيضاً، يقول:

“يجب تمييز الروحانية عن الدين، لأن الناس من كافة المعتقدات ومن دونها، خاضوا نفس الأنواع من التجارب الروحية”.

لنتوسّع أكثر في هذه الفكرة ولنتحدّث عن إله مصري قديم اسمه سوبيك. الإله المصري سوبيك له جسد إنسان ورأس تمساح. وفقاً للدين المصري القديم، سوبيك هو الإله العنيف حادّ الأسنان، حامي الصيّادين والمزارعين من أخطار نهر النيل، مساعدهم في تحقيق خصوبة الأرض والبشر، رمزاً للشراسة الحربية حين يصلّي له الجنود، والربّ الوفي لمنطقة الفيوم “أرض البحيرة”. هل كان هنالك حقاً إله له جسد إنسان ورأس تمساح يسهر على عافية المصريين على ضفاف النيل؟ نعم ولا.

سوبيك الحقيقي ليس الإنسان برأس تمساح، سوبيك هو علاقة مع قوّة حيّة. الإنسان برأس التمساح هو مجرّد تصوّر فنّي لتجربة روحية مضمونها هو تلك القوّة الغامضة التي تنبض في نهر النيل. علاقة المصريين القدماء مع سوبيك هي علاقتهم مع تلك القوّة، مع النيل، ومع أقوى مخلوقاته، ومع كل العوامل التي جعلت منه نبعاً للحياة.

ماذا كان يفعل المصري القديم حين كان يعبد سوبيك؟ كان يبني علاقة؛ علاقة تسمح له أن ينهل من القوّة التي يعبّر عنها سوبيك وأن يناغم وعيه الذاتي مع وعي تلك القوّة. العلاقة التي نسجها المصريين القدماء مع سوبيك كان لها هدف عملي أيضاً (الحماية من الأخطار مثلاً)، وبعد نفسي (رصف الوعي الذاتي مع قيم نؤمن بها) وأثر بيئي (العلاقة مع النيل ومخلوقاته تستوجب احتراماً معيناً لدورة الحياة)، وبعد روحي (العلاقة مع قوّة أسمى). كانت علاقة متعدّدة الأبعاد.

الكلمة المفتاح هنا هي مرّة أخرى: الوعي. جوهر العلاقة الروحية هو اتصال وعينا بالوعي الذي تمثّله تلك القوّة الغامضة، لا العلاقة المادية البحتة مع المياه والتماسيح. قد يقول أحدهم أننا لسنا بحاجة لسوبيك لننسج علاقة مع النيل وقوّته، وهنا ربّما الاختلاف الحقيقي الأوّل بين العلم والروحانية: في الروحانية ، العلاقة هي بين ذات وذات، بين وعي ووعي، بين فلاح مصري وسوبيك، لأن الروحانية ترى العالم مكاناً مليئاً بالحياة والكينونات وعلاقاتها هي علاقات متبادلة وذات اتجاهين. بالنسبة للماديين للعلم بشكل عام، العلاقة هي دائماً بين إنسان وشيء فقط، بين فاعل ومفعول به، إنها علاقات ذات اتجاه واحد، والعالم بنظر المادّيين هو مكان فارغ من الحياة والوعي بشكل عام.

العلمويّون (المؤمنون بالعلم كأيدولوجيا) يعتقدون أن الوعي اليومي العادي هو النوع الوحيد الممكن من الوعي، وأن البشر هم الكينونة الوحيدة الواعية في الوجود، وبالتالي ليس هنالك بالنسبة لهم سوى علاقة واحدة ممكنة مع العالم – غالباً ما يقصدون بها العلاقة البيولوجية المباشرة والاستغلال الاقتصادي البحت لصالح الإنسان.

الروحانية على الجانب الآخر، تعتبر أنه هنالك مستويات وأنواع مختلفة من الوعي لا يشكّل الوعي اليومي العادي سوى واحدة منها، وأن البشر ليسوا الكينونة الواعية الوحيدة في هذا الوجود (سواء كنا نعتقد أن الكون نفسه واعي أو أنه هنالك كينونات أخرى واعية فيه)، وهنالك بالتالي عشرات ومئات العلاقات المختلفة التي يمكن نسجها واختبارها في هذا الوجود بالنسبة للروحانية.

لذلك، الروحانية هي في علاقتها مع العالم دائمة التطوّر والتغيّر ككل العلاقات في الوجود، فيما علاقة العلم مع العالم تشبه نظيرتها في الأديان الإبراهيمية: علاقة جامدة ومملة باتجاه واحد مع شيء لا حياة فيه.

وهنا نصبح أمام أساس المعضلة بين العلم والروحانية: الروحانية تقوم على سؤال: كيف نبني علاقة مع هذا العالم ونعيش فيه؟ العلم يقوم على سؤال: كيف يعمل هذا العالم؟

المشكلة دائماً تحصل حين يحاول أحد الاثنين الإجابة على سؤال الآخر. وهذا ما سنتحدّث عنه في الفقرة الأخيرة.

*

هذا الكون الواسع وعلاقتنا المأزومة مع أنفسنا

بردية إيبيرس هي أقدم وثيقة طبية في التاريخ، تعود إلى 3500 عام مضت من مصر القديمة. المُدهش في الوثيقة هي أن معرفة المصريين القدماء الطبية كانت متقدمة جداً بالنسبة للعصر وقائمة على التجربة والاختبار، لكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي أن الوثيقة تضم إلى جانب التشخصيات الطبية العلمية مئات التعاويذ السحرية والطقوس الروحية. اليوم سيكون من الغريب جداً بالنسبة لنا أن نرى أي شيء من هذا القبيل في أي وثيقة علمية، لكن في ذاك الوقت كان الدمج بين الدين والعلم طبيعياً لأنهما تكاملا بنظر القدماء: العلم لمداواة الجسد والطقوس الدينية لمداواة الروح؛ وكلاهما كانا يخضعان للتطوير والتعديل بحسب النتائج.

بردية إيبيرس ليست الاستثناء في التاريخ القديم حيث كان من الصعب التمييز بين العلم والروحانية والفلسفة، وحيث كان البحث في أصل الوجود ومعناه هو مغامرة روحية وعلمية وفلسفية في الوقت نفسه. الروحانية، كما الفلسفة والعلم، كانت في تطوّر دائم وكان من الشائع أن تأتي مدرسة جديدة في أي من هذه المجالات تقترح ما هو مناقض للفلسفات التي سبقتها. العلاقة بين العلم والدين لم تتأزم إلا بوصول الأديان الإبراهيمية التي أرادت أن تحتكر الأسئلة والأجوبة معاً.

رغم الانتصار المؤقت للأديان الابراهيمية في التاريخ القديم، عاد العلم ووجّه ضربات حاسمة للأسطورة الدينية الإبراهيمية. طبعاً، الدينيين لم يعترفوا بهزيمة أساطيرهم أمام العلم، والعديدون منهم أنشأوا تيارات جديدة من الإيمان الديني قائمة على إقحام الدين في الفراغات المؤقتة التي يتركها العلم (مثل ما الذي سبب الإنفجار الكبير مثلاً، وما الذي دفع عجلة تقدم الفصائل البشرية بهذه السرعة؟)، ويعتمدون على خزعبلات لغوية معقّدة لوضع تفسيرات جديدة للنصوص الدينية تناسب الاكتشافات العلمية، أو يستغلّون سوء فهم النظريات العلمية لجعلها تتوافق مع مزاعمهم – وهذا هو باختصار مفهوم الاعجاز العلمي في القرآن مثلاً.

صحيح أن مزاعم الدينيين هنا مثيرة للشفقة، لكن الحقيقة هي أنهم يستفيدون من واقع أن العلم يطرح اليوم أسئلة روحية أكثر من أي وقت مضى. هنالك مثلاً فرع كامل من العلم – علم الكون الفيزيائي – يحاول الإجابة على أصل الكون وبنيته وعناصره والقوانين التي تحكمه وتطوّره ومصيره، والعديد من نتاجاته هي أقرب للنقاشات الفلسفية القديمة عن أصل الكون منها للنقاشات البحثية العلمية، لأنه هنالك صعوبة بطبيعة الحال بدراسة الكون ككل بأدواتنا العلمية المحدودة المحصورة بكوكبنا الصغير.

نموذج لامبدا سي-دي-أم مثلاً هو من نتاجات هذا الفرع العلمي، وهو نموذج يحاول تفسير وجود الكون وتوسعه وسبب وفرة عناصر معينة فيه (كالهيدروجين). يفترض هذا النموذج بأن مجموع تكافؤ كتلة المادة-الطاقة في الكون يتألف من 5 % فقط من المادة والطاقة اللتان نعرفهما علمياً، أما بقية الكون فهي مؤلفة من 27% من المادة المعتمة و68% من طاقة مجهولة نسمّيها الطاقة المعتمة. ما نعرفه علمياً ممّا يشكّل الوجود لا يشكّل إذاً سوى 5%، والـ 95% الباقية ليس لدينا أي فكرة عنها حيث أنه لا يوجد أدلة على ماهية المادة المعتمة والطاقة المعتمة وكلاهما افتراضات فقط.

طبعاً من المغري جداً في هذه الحالة للدينيين والروحيين على السواء أن يقولوا أن ما يؤمنون به موجود في تلك الـ95% المجهولة والخفية من الكون، ونحن لم نتحدّث هنا سوى عن نظرية علمية واحدة من بين عشرات النظريات التي يمكنها تأمين تفسيرات علمية لأشياء مثل تأثير الذهن على المادة، الأبعاد الموازية، التجارب الروحية الماورائية، وغيرها.

رغم جاذبية وضع تفسير علمي للروحانية، اعتقد أنه يجب على الطروحات الروحية تجنّب العيش في الفراغات التي يتركها العلم، مهما كانت الدلائل العلمية مثيرة ومؤاتية لطروحاتها، وذلك للسبب التالي: العلم يتحرّك ويتغيّر باستمرار؛ ما هو صحيح اليوم قد يكون خاطىء غداً، وما هو مجهول اليوم علمياً قد يصبح معروفاً بعد غد، وبالتالي أي بناء روحي يستعمل العلم كعكّاز للمشي قدماً هو بناء هشّ ومعرّض للانهيار في أي وقت.

حسناً، إن كان من الخطأ على الروحيين استخدام العلم للخروج بأجوبة روحية وفلسفية، ألا يعني أنه من الخطأ أيضاً أن يحاول العلمويّون القيام بالأمر نفسه؟

بالتأكيد. في ظلّ وجود الكثير مما نجهله عن الوجود، الإصرار على أن الكون مكان فارغ وميت ولا مكان فيه لأي شيء مختلف عمّا نعرفه بالتمام في هذه اللحظة الواحدة، هو موقف فلسفي قصير النظر، لا موقف علمي، ولا يختلف أبداً عن عبثيّة إصرار الدينيين على أن أساطيرهم التي وُضعت في لحظة تاريخية محددة هي حقائق لا نقاش فيها عن كلّ الوجود.

من يصرّون على أن كل خرافاتهم تعيش في تلك الـ95% المجهولة من الكون، يتصرّفون تماماً كالذين يصرّون بأنه لا يوجد أي شيء ذا معنى على الإطلاق في تلك الـ95%.

في الواقع، ينحو الكثير من الملحدين والعلمويّين للخلط بين العدمية المادّية كموقف فلسفي-روحي وبين العلم كأداة لفهم العالم، وهنا يكمن التعارض الحقيقي: التناقض ليس بين العلم والروحانية، بل بين الفلسفات العدميّة المادّية وفلسفات المعنى الروحية.

*

لماذا نحتاج للروحانية أكثر من أي وقت مضى

العلم اليوم موجود في أكثر مكان مثير للاهتمام في التاريخ؛ لقد اكتشفنا أن الكون أوسع بكثير مما كنا نعتقد ومثير للاهتمام أكثر من أكثر أحلامنا غرابة. يخبرنا العلم اليوم أشياء مثل أن كل الوجود مصنوع من نفس الجزيئيات، وأن هذه الجزيئيات تتفاعل مع بعضها بعضاً من دون وجود رابط مادي مباشر بينها (فيزياء الكوانتوم)، ويخبرنا أن الحدود بين المادّة والطاقة ليست جامدة ومطلقة كما كنا نعتقد، ويخبرنا بأنه يمكن أن يكون هنالك عوالم موازية تعيش حتى في نفس المساحة الفيزيائية لعالمنا، ويخبرنا بأن معظم الوجود مكوّن من مادة وطاقة معتمتان ليس لدينا أي فكرة عن طبيعتهما، ويخبرنا أن الكون ربّما يولد ويتوسّع ويتقلص مئات المرّات في دوراته، وأنه هنالك بضعة أرقام فقط أتاحت وجوده ولو تغيّر واحد منها لكنا نعيش في كينونة مختلفة تماماً، ويخبرنا الكثير والكثير من الأشياء التي تفتح احتمالات فلسفية وفكرية وروحية هائلة. أمام كلّ هذه الأمور يصرّ العدميّون الماديّون أن كلّ ذلك خالٍ من المعنى وأن الكون، رغم كونه يضجّ بالحياة والأشياء المذهلة، هو في الواقع مجرّد صخرة فارغة عائمة في اللامعنى.

للمفارقة هنا، المادّية العدميّة والأديان الإبراهيمية يتفقان على بعض الأشياء الجوهرية تجاه الوجود: كلاهما يعتبران الكون مجرّد مكان فارغ من الحياة ولا معنى له بذاته؛ وكلاهما يتفقان على تكفير كلّ من يقول أن الكون مكان حيّ أو أنه قد يكون فيه أكثر ممّا نراه بأعيننا وتلسكوباتنا. في الحقيقة، كلا الأديان الإبراهيمية والمادّية العدمية يعبّران عن أزمة في علاقتنا مع أنفسنا والعالم. ولذلك، نحن نحتاج للروحانية أكثر من أي وقت مضى.

العلم لا يقول لنا إن كان العالم مكاناً فارغاً أو ممتلئاً، عدمياً أم ذات معنى (حتى ولو حاول بعض العلماء الإجابة على هذا السؤال، العلم بحد ذاته لا يبحث في المعنى)، الفلسفة هي التي تحاول الإجابة على هذا السؤال. السؤال الأساسي للفلسفة – وللروحانية كامتداد طبيعي لها – ليس فقط كيف هو العالم، بل كيف نعيش في هذا العالم.

العلاقة التي تبنيها الروحانية مع الذات والعالم هي علاقة معنى، لا نظرية عقلانية لتفسير آليات الوجود. العلم يسأل كيف يعمل هذا الكون، والروحانية تسأل أي علاقة يمكن أن ننسجها معه؟ العلم يسأل كيف يعمل الجسد والذهن، والروحانية تسأل أي علاقة يمكن أن ننسجها مع أنفسنا؟ العلم يسأل كيف تؤثر البيئة والعناصر الطبيعية على الحياة، والروحانية تسأل أي علاقة يمكن أن ننسجها مع العالم الطبيعي من حولنا؟ العلم يسأل كيف تتواصل الجزيئيات الكوانتوميّة من دون رابط مادي بينها والروحانية تسأل كيف يمكن لوعينا أن يتجاوز جسدنا الفيزيائي؟

العلم هو عن البحث عن سبب فيما الروحانية هي البحث عن معنى. العلم يحاول تفسير ما هو موجود، والروحانية تحاول بناء علاقة ذات معنى مع هذا الوجود.

العلم والروحانية ينطلقان من أسئلة مختلفة، ومن الطبيعي أن يصلا إلى أجوبة مختلفة كما أنه من الطبيعي أن يتفقا أو يتعارضا في بعض الأجوبة.

سيقول البعض بأن الأجوبة العلمية تنفي الحاجة للأجوبة الروحانية، لكني لا اعتقد أن ذلك صحيحاً. هل أن معرفتي أن العواطف هي مجموعة تفاعلات كيميائية في الدماغ ستمنعني من ممارسة الحب بشغف مع حبيبتي وإيجاد معنى في العلاقة معها؟ هل أن معرفتنا بأن الكون مكوّن من عدد هائل من المجرّات والنجوم والكواكب يمنعنا من أن تتواصل روحنا مع قلب هذا الوجود المليء بالأسرار؟ هل أن معرفتنا بأن كل شيء مؤلف من نفس الجزيئيات الكوانتومية يتعارض مع اعتقادنا بوحدة الوجود؟

العلوم تخبرنا كيف يعمل العالم، أما الروحانيّة فهي تعلّمنا أي علاقات وتجارب يمكن أن ننسجها معه ومع كل شيء فيه، وأي معنى يمكن أن نجد في تلك الروابط والتجارب. الإثنان، العلوم والروحانيّة، يتكاملان: اختبار العالم كمكان مقدّس لامتناهٍ وحيّ، لا يتعارض أبداً مع معرفة كيف يعمل.

كيفية رؤيتنا وطبيعة علاقتنا مع ذاتنا ومع الوجود تحدّد إلى حدّ كبير كيف نتصرّف وكيف نعيش في هذا العالم وكيف نرى دورنا فيه. هذه العلاقات تكتسب اليوم أهمية أكثر من أي وقت مضى لأن حضارتنا هي بصدد إعادة تشكيل الواقع على شكل الأيدولوجيات التي تحكمها حالياً: القفزات العلمية في أمور مثل التصميم والتعديل الجيني، الذكاء الاصطناعي، اندماج البيولوجيا بالآلة، تكنولوجيا النانو، انترنت الأشياء، وغيرها، كلها أمور ستعصف بالحدود القائمة بين الواقع والخيال وستطرح علامات استفهام كبرى حول ما يعنيه أن نكون بشراً وكيف نعيش مع بعضنا البعض ومع العالم من حولنا.

في خضم كلّ ذلك، الأيدولوجيا المهيمنة هي التي ستقود إعادة التشكيل هذه، وستحاول رسم الواقع على صورتها ولن يكون لديها معضلات وجودية حين تحاول الإجابة على أسئلة من قبيل “هل يجب دمج الإنسان بالآلة؟”. الإجابة على أسئلة كهذه ستكون مهمّة فكرية وروحيّة شاقة وكبيرة، ولا يجب أن تُترك هذه الإجابات للعدمية المادّية السائدة حالياً لأننا نعرف جوابها منذ الآن.

في زمن كل علاقاتنا فيه مأزومة، مع بعضنا البعض، مع ذاتنا ومع أرضنا، تكتسب الأسئلة الروحية أهمية متزايدة، والسؤال الذي يجب أن نسأله على أنفسنا ليس ما اذا كانت الروحانية تتعارض مع العلم أم لا، السؤال الحقيقي هو كيف يمكن أن نسمح لروحنا باستعادة قدرتها على المغامرة وعلى اختبار الوجود بحرية، وعلى مصالحة نفسها مع كلّ الجروح التي تعرّضت لها خلال ما هو من دون شكّ أشدّ العصور قسوة على روحنا البشرية؟ كيف نحافظ على روحنا حيّة وبرية وحرّة في زمن لا يسمح لشيء أن يكون حياً وبرياً وحرًا؟

*

____________________

هوامش:

[1] طبعاً المجتمعات البوذية لها تاريخياً معتقداتها الماورائية الخاصة، لكن تلك المعتقدات تختلف بين بلد وآخر ليست معياراً للإنتماء لها.

[2] يطرحها تيرينس ماكينا في كتاب “غذاء الآلهة” الصادر عام 1993. النظرية لم تؤخذ جدياً علمياً إلا مؤخراً.

[3] Sam Harris, Waking Up: A Guide to Spirituality without Religion

* * *

يمكن العودة إلى فهرس العدد الخامس وقراءة كافة مقالات العدد على الرابط التالي: ما بعد الإلحاد: نقاش يتجاوز ثنائيات التناقض

Posted on مارس 14, 2019, in مقالات رأي and tagged , , , . Bookmark the permalink. 3 تعليقات.

أضف تعليق