السحر: الحقيقة حول أقدم فنون البشر

...

“السحر” كان أقدم المحاولات البشرية الرامية لفهم العلاقة المتبادلة بين الإنسان، الطبيعة والمقدّس، وهو أيضاً أولى المجالات التي اكتشف فيها الإنسان قدرته الذهنية الهائلة. النظرة إلى السحر وتعريف الكلمة تطوّرا كثيراً عبر التاريخ حتى بتنا اليوم نستعمل الكلمة لندلّ على كل شيء خارج عن المألوف. السحر يشكّل جزء أساسي من معظم أديان العالم وضمنها الأديان التي تحرّمه وتطلق عليه تعابير سلبية مثل “الشعوذة” وما شابه ذلك. وهو كذلك جزء من الثقافة الشعبية التي لديها العديد من الممارسات السحرية مثل “الرقيّة” الشفائية التي تمارسها كل جدّاتنا تقريباً. في المقابل، معظم الأوساط العلميّة ترى أن كل الأمور المرتبطة بالسحر هي خرافات وترّهات. لكن السحر في الواقع، من وجهة نظر ممارسيه الحقيقيين، يختلف بشكل جذري عن كل هذه الصور النمطية الموجودة اليوم في أذهان معظم الناس.

بعدما استعرضنا في مقالتي “تجربة النوايا” و”حقل النقطة صفر“، الخلفيّة العلميّة والتجريبية التي تثبت قدرة الذهن والإرادة البشرية على التأثير على الواقع الفيزيائي، قد تتغيّر نظرتنا تجاه السحر، وسنراه على أنه، ليس ممكناً فحسب، بل هو يحدث في الواقع ضمن قوانين الطبيعة وليس “خارقاً” للطبيعة بالمعنى التقليدي للكلمة. فهم هذا الأمر أيضاً يسهّل علينا استيعاب كيفية نشأة السحر عبر التاريخ ولماذا كان ولا يزال يلعب أهمية كبيرة في المجتمع، وإن تغيّرت أسماؤه بين مرحلة وأخرى.

حول العالم، هنالك عدد كبير من الحالات المثبتة لأشخاص امتلكوا قدرات “خارقة للطبيعة”، منها شفائي، منها تنبؤي، ومنها يشبه السحر السينمائي مثل القدرة على تحريك الأشياء عن بعد، الرؤية عن بعد، الخروج من الجسد، التخاطر،…ألخ. وهنالك سحرة امتلكوا شهرة عالمية عبر قدراتهم ومزاعمهم، مثل داهش اللبناني، وأليستر كراولي البريطاني. كما هنالك منظّمات غامضة اشتُهرت بممارساتها الباطنية والسحرية مثل “المنظمة الهرمسيّة للفجر الذهبي” The hermetic order of the Golden dawn . واليوم، هنالك العديد من التيارات الروحية المعاصرة مثل الويكا والفودو، التي يشكّل السحر أحد مرتكزاتها الأساسية. هنالك أيضاً كمّ هائل من الكتب “السحرية” التي تعد القارىء بتحقيق أمور “خارقة للطبيعة” من خلال ممارسات بسيطة يمكن لأي كان القيام بها. رغم هذه “العودة” للسحر خلال القرنين الأخيرين، لا يزال هنالك العديد من المفاهيم الخاطئة حوله، كما هنالك العديد من الخرافات التي تحيط به. فما هو السحر إذاً من وجهة نظر مممارسيه الذين يعتبرونه ممارسة روحية، دينية أو باطنية اعتيادية؟

 يُعتبر أليستر كراولي أحد أهم الأشخاص الذين عملوا على موضوع السحر خلال العصر الحديث. يعرّف كراولي السحر بالقول أنه “علم وفنّ تغيير الواقع ليتماشى مع المشيئة (الإرادة)”[1]. الكاتبة البريطانية ديون فورتون تقول بطريقة مشابه أن السحر هو أنه “فن وعلم التسبب بتغيّرات في الوعي وفقاً للإرادة”[2].

الورقة الأولى من الأركانا الكبرى للتاروت، "الساحر".

الإرادة إذاً، وفقاً لمدارس السحر التقليدية، هي عنصر رئيسي في أي عمل سحري. والمقصود بالعمل السحري هنا هو العمل الروحي العالي أو “الخارق للطبيعة” وهو بذلك مختلف عن السحر المسرحي أو ألعاب الخفّة. يشرح كراولي آلية عمل السحر التقليدي بالقول أن “كل تغيير في الطبيعة هو نتيجة ممارسة قوّة ما على شيء محدّد بالطريقة الصحيحة”. وبما أن أي عمل إرادي هو ممارسة لقوّة من نوع أو من آخر، فإن هذه القوّة قادرة، وفقاً للسحر، على إحداث تغيير، لا فقط في الجانب الروحي والنفسي للشخص الذي يمارسه (وهذا هو الهدف الأساسي من السحر التقليدي)، لكن أيضاً في الواقع الفيزيائي.

لذلك، المهمّة الرئيسية لأي تلميذ في منظّمة سحرية هي قضاء ساعات طويلة وشاقّة في تمرين قوّة إرادته الذهنية وتحسين تركيزه، لدرجة تصبح فيها الصورة الذهنية التي ترتسم في ذهنه قادرة على الترجمة داخلياً على مستوى الوعي أو فيزيائياً على المستوى المادّي. مدّة الدراسة التقليدية في هذه المدارس لم تقلّ عن 13 عام يقضيها التلميذ في التزام تام بمبادىء حرفته.

كما كل الممارسات الروحية القديمة، هنالك العديد من “المدارس السحرية” المختلفة والتي تختلف في ما بينها، لا في مرتكزاتها فحسب، بل في ممارساتها وأهداف هذه الممارسة. أحد أكثر أنواع السحر انتشاراً في الروحانيات الغربية هما السحر العالي  High magicو”السحر الطقوسي” Ceremonial Magick الذي تشكّل الطقوس ذات الإطار المحدّد مسبقاً حجر أساس فيه. الأنواع الأخرى من السحر تشمل السحر الفوضوي  Chaos magic، السحر التقليدي Witchcraft، غوتيا Goetia، السحر الجنسي Sex magic، السحر الإينوشي Enochian magic، السحر الشعبي Folk magic…ألخ.

من حيث الاختلاف في المنطلقات، هنالك بعض المدارس السحرية التي تمتلك نظرة شاملة للوجود والكون كما في النظام الذي كانت تتبعه منظّمة “الفجر الذهبي”، كما هنالك مدارس تعتبر أنه “ليس هنالك من أي حقيقة في الكون” كما في مدرسة السحر الفوضوي. لكن الخلاف الأكبر، في رأينا هو الذي يقع في الهدف من السحر؛ عند مراجعة التعريفين السابقين للسحر، نرى أن أحدهما يقول أن هدف السحر هو تحقيق تغيير في الواقع (الخارجي)، بينما الآخر يقول أن الهدف منه تحقيق تغيير في الوعي (الداخلي). السحر في معظم المدارس الباطنية الحديثة يقوم على فكرة “التحكّم في قوى الطبيعة” وتسخيرها لخدمتنا عبر استعمال قوّة الإرادة وهذا مفهوم متأثر إلى حد ما بالغرور الإنساني في ظلّ الحضارة الصناعية الذي يعتبر أن كل شيء مسخّر لخدمته؛ في بعض المدارس القديمة كان الهدف من الممارسة السحرية هو التحوّل الداخلي للشخص الذي يمارسه وتعلّم احترام قوى الطبيعة والعمل معها لا محاولة ثنيها لتخدمنا. هذا الفارق واضح في كون المدارس السحرية الحديثة ترتكز على “الاستحضار”، أي استحضار قوى ماورائية لتخدم الساحر الذي استحضرها، أما معظم المدارس السحرية القديمة فكانت ترتكز على “الارتقاء” (التعبير الإنكليزي الأدق هو “ثيورجي” Theurgy) الذي كان يقوم على فلسفة ترقية النفس والجسد إلى مستوىً روحي عالٍ لدرجة التوحّد مع المقدّس. الممارسة الأولى تهدف لتحقيق تحوّل خارجي مادي في العالم الفيزيائي في الطبيعة (أو في أشخاص آخرين)، أما الممارسة الثانية فهي تهدف لتحقيق تحوّل داخلي في العالم الروحي الداخلي للشخص، وهذا فارق جوهري إن لم نقل أن الأمران مختلفان كلياً.

الفارق هذا واضح أيضاً في كيفية فهم المدارس القديمة والحديثة مثلاً لعمل الخيمائيين القدماء؛ فيما تعتقد المدارس الحديثة أن جهود الخيمائيين كانت منصبّة على تحويل المعادن إلى ذهب، يعلم معتنقو المدارس القديمة أن تحوّل المعدن إلى ذهب هو تشبيه استعمله الخيميائيون والصوفيون للحديث عن التحوّل الذي يصيب الروح من خلال ممارسة “الارتقاء”.

*  *  *

رغم التقدم العلمي والمعرفي الهائل خلال القرون الأخيرة، والذي حمل معه وعود بالقضاء على “كل الخرافات” كالسحر، هنالك اليوم عدد أكبر من ذي قبل ممن يؤمنون بالأمور “السحرية” الخارجة عن المألوف مثل علم الفلك، التنبؤ، والسحر. ربما لأن هذه الأمور تحاكي فينا، إيمان دفين بقدرتنا الداخلية على التأثير على العالم وأحداثه، وربما أيضاً لأنها تعبّر عن واقع حقيقي وقدرة فعلية فينا لم يجرؤ العلم على استكشافها أو الاعتراف بها منذ الثورة الصناعية حتى اليوم – رغم أنه اليوم يدخل بخجل إلى هذا الميدان. في الواقع، قد نكتشف يوماً ما في المستقبل، أن السحر ليس أمراً خارجاً عن الطبيعة، وأنه حقاً قدرة موجودة في كل واحد(ة) منّا.


[1] Valiente, Doreen (1973). An ABC of Witchcraft Past and Present. Hale. pp. 231

[2] John Michael Greer, The Druidry Handbook: Spiritual Practice Rooted in the Living Earth, p 126, Weiser Publications 2006.

Posted on أوت 22, 2011, in تعاريف and tagged , , , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink. 8 تعليقات.

  1. يعني فينا نستنتج إنو السحر هو مجموع إرتقاء مادي وقوة طبيعية زائدة عن التي يملكها البشر العاديون (أو بمعنى آخر إمتلاك سبل تشغيلها لهذه الطاقة) بالإضافة لبعض العلوم الأساسية كالفيزياء ..
    ما بعرف بس هيك انا حسيت !! صحيح يا أدون حكيي ؟؟

    رائعة !!

  2. بدي اسألك سؤال كيف فيك تمرق هالكم الهائل من المعلومات بمقالة قصيرة نسبيا؟
    تاني شي ان لم يكن الهدف من اي ممارسة روحية هو التحول الداخلي فبلاها من الأساس.
    بعدين قصة حجر الفيلسوف و الخيميائيين الي بيحولوا المعدن لذهب فانا معك 100% بانو المقصود هوي النمو الروحي .
    مشكور على الجهد الي عم تبذله .

    • 😀 ما بعرف يا صديقي بس بيكون فيه أفكار كتير وما فينا نطوّل المقالات لتضلّ قابلة للقراءة.

      التحوّل الداخلي برأيي المتواضع هو معيار تقييم الممارسات الروحية، فمن هالناحية معك حق.
      الشكر إلك أغنوستيك
      تحياتي

  3. شكراااااا كتيييير
    على جهودك ..

  4. اخواني في اية مدري حديث انما نخشا العلما يعني هذي اخرتها سحر عشان نوصل لشي طيب الله ايش قال

  5. أشكرك هل ممكن تحكي لنا عن حجر الفلاسفة 🙂

اترك رداً على Adon إلغاء الرد