الحياة الواعية

العين التي ترى كل شيء هي الذات المطلقة

أدون

الحياة بعد الاستيقاظ لا تشبه الحياة قبل ذلك سوى بالإسم. الفارق الأساسي هو أن العيش ينتقل من كونه أوتوماتيكي، ينتقل من كونه ردّة فعل وتلقّي للحياة، إلى كونه واعي، هادف وإرادي. هذا لا يعني بالضرورة أن الإنسان المستيقظ هو الذي يشاكس تيّار الحياة كل يوم، بل يعني في معظم الوقت العكس تماماً: الإنسان المستيقظ هو المتصالح مع الحياة مهما وضعت من عراقيل وصعوبات في طريقه. هو الذي يقبل الأحداث الجيدة والأحداث السيئة في أيامه من دون أن يفقد توازنه أو ينكسر أمام أي حدث. هو القادر على الاستمتاع بكل لحظة في حياته أينما كان وكيفما كان من دون أن يعني ذلك رضوخه لما لا يمكن الرضوخ له.

الإنسان المستيقظ هو المتصالح مع نفسه والذي يعرف نفسه جيداً؛ يعرف من أين تأتي أحاسيسه ومشاعره وأفكاره وكيف تستطيع أن تؤثر عليه وأن يؤثر عليها؛ يعرف نقاط قوته وضعفه ويعرف كيفية استعمالها والتصالح معها. الإنسان المستيقظ هو الذي يعرف كيف يفهم ويعي كل حالة تمرّ عليه، داخلية كانت أم خارجية، ولا يدعها تطيح بتوازنه أو تتحكّم بمزاجه أو قراراته أو أفكاره. الإنسان الواعي هو الذي يعرف أنه كون قائم بحدّ ذاته، وأن كونه الداخلي هو مطابق للكون الخارجي الكبير، مطابق له في بنيته، في عظمته، في جماله، في جبروته وفي قدسيّته، لأنه يعرف أن الحقيقة تقول أنه “كما في السماء كذلك على الأرض”. الإنسان الواعي هو الذي يمارس الحياة بوعي، من أبسط تفاصيلها وأحاديثها اليومية، إلى طعامها وأصواتها ورائحتها وألوانها وشمسها وسمائها وأشجارها ومدنها وحيواناتها وجمالها وقبحها. هو الذي يمارس الوعي من أصغر قراراته إلى أكبرها؛ هو متيقّظ لكل شيء ويمارس حياته مستيقظاً في كل شيء. هو الذي يعرف جيداً كيف يحب ويكره وكيف يقاتل وكيف يصنع سلاماً، يعرف كيف يسامح ويحزن ويفرح من دون أن يسلّم زمام إرادته لهذه المشاعر المؤقّتة.

الإنسان الواعي هو الذي يرى وراء الأقنعة، هو الذي يرى أبعد من الأشكال ويقرأ خلف الكلمات والصور، هو الذي يستطيع رؤية الحياة بحقيقتها، لا كما يريد ذهنه أو رئيسه أو حاكمه أو تلفزيونه أن يريه إياها؛ بل كما هي في حقيقتها الساطعة. هو الذي يستطيع تقدير الحياة والاستمتاع بجمالها في كافة أوجهها. الإنسان الواعي هو الذي يدرك ما وراء الجسد أيضاً لأنه يعرف الروح وحقيقتها؛ هو الذي يستطيع التواصل مع أعماقه ومع حقيقته الأسمى، وهو الذي يستطيع التواصل مع الآخرين والشعور بهم، لا كوجوه متكلّمة فحسب، بل كطاقة وروح وإشعاع وكينونة وجوهر.

الإنسان الواعي هو الإنسان “الحاضر”؛ الحاضر بكامل حواسه وذهنه ونفسه مع نفسه ومع الكون، الحاضر بكامل حواسه وذهنه ونفسه مع أعماله وحياته اليومية، الحاضر بكامله مع أحبّائه… الإنسان الواعي لا يمارس الغياب، لا يعيش حياته بالشرود أو الهروب أو التأجيل أو الإحباط؛ يحياها هنا الآن، كل لحظة يحياها كاملة وجميلة وعظيمة بذاتها، كل لحظة كأنها الأخيرة وكل لحظة كأنها الأبدية أيضاً، كل لحظة تحوي الحياة بأكملها… فلنحياها مستيقظين!

___________________

* يمكن العودة إلى فهرس العدد الرابع: “من النوم إلى اليقظة” على هذا الرابط (هنا).

___________________

Posted on نوفمبر 25, 2011, in مقالات رأي and tagged , , , , , , . Bookmark the permalink. 5 تعليقات.

  1. !!! This is SO true

    • المقالة جميلة والفكرة التي تدافع عنها مفهومة تحتاج فقط الحذر من اللغة ! اللغة ورطة ! لأنها وسيلة تعبير وأكثر شوية إذا لم ننتبه! اليقظة بدون انتباه لكيفية انسياب اللغة في دواخلنا واعماقنا وكيف تتشابك وتتعقد معها رغباتنا الخفية والتي لانعرف عناوينها ولا تسميها ولا التعامل معها ،، هذه اللغة نفسها تكون حبس لنا ! لا معنى ليقظة لا تعرف ضيق سجنها ولا تتلمس ما يحاصرها من كل صوب ! الحرية تنتزع أولا في النفاذ من جدران وقواعد وأعمدة اللغة وتفاسير الحروف المقدسةة

      • بالتأكيد يا منى، كنت أحب ان نتناول موضوع البرمجة اللغوية على صفحات المدوّنة هنا لكن للأسف لم استطع الاستمرار بالكتابة وتحديث المدوّنة بمفردي، على أمل أن يكون هنالك فريق تحرير أكبر في المستقبل لكي نقدّم مادّة للقارىء العربي غير متوافرة على الانترنت. في هذه الحالة، ربما تستلمين انتِ الكتابة في هذا المجال مثلاً 🙂

  2. أبدعت وشكرا لك

  3. صافي السلمي

    موقع ثري ورائع كان قدري أن أصل إليه وأنهل من معينه
    شكرا من القلب
    أتمنى أن يستمر الموقع
    لكم خالص تقديري وامتناني

أضف تعليق